أنقرة وواشنطن فى القرن الإفريقى.. لماذا؟
يزداد التقارب بين القاهرة وأنقرة، وسط التوترات بين إثيوبيا والصومال، وتتواصل اللقاءات بين المسئولين المصريين والأتراك، فى محادثات بشأن إفريقيا وليبيا، تركز على منطقة القرن الإفريقى والبحر الأحمر، توصل خلالها الجانبان إلى أرضية مشتركة وتفاهم بشأن «سبل الحفاظ على الأمن والاستقرار» فى منطقة القرن الإفريقي، بما يسمح «باستعادة حركة الشحن» إلى مستوياتها الطبيعية فى البحر الأحمر، وأكدا أن تركيا ومصر «ستعززان التعاون على مستويات متعددة لتحقيق أهدافهما المشتركة، فى المنطقة»، فى حين تدعمان الصومال فى جهوده «لمكافحة الإرهاب» وبناء جيشه الوطنى.. وقد سبق وقدم البلدان الدعم للصومال، حيث وقّعت أنقرة اتفاقية دفاعية تاريخية مع الحكومة الصومالية فى فبراير الماضى، بموجبها ستقوم تركيا بدوريات والدفاع عن المياه الإقليمية الصومالية.. كما وقعت مصر بروتوكول تعاون عسكرى مع الصومال، ينص على نشر قوات مصرية فى البلاد، كجزء من قوة حفظ السلام الإفريقية.. وفى سبتمبر الماضى، زار الرئيس عبدالفتاح السيسى تركيا، حيث التقى نظيره رجب طيب أردوغان بعد أكثر من عقد من الخلاف.
توترت العلاقات بين الصومال وإثيوبيا، فى وقت سابق من هذا العام، بعد اتفاق شهد موافقة منطقة أرض الصومال، المُعلنة استقلالها من جانب واحد، على تأجير جزء من ساحلها على البحر الأحمر لجارتها غير الساحلية إثيوبيا.. وفى إطار التفاهم، اعترفت أديس أبابا باستقلال المنطقة، وتخطط لبناء قاعدة بحرية على أراضيها، وهو اعتبرته دولة الصومال انتهاكًا لسيادتها.. هنا، أطلقت تركيا مبادرة للمصالحة بين اثنين من أهم شركائها فى شرق إفريقيا فى مايو الماضى، عقب زيارة رئيس الوزراء الإثيوبى، أبى أحمد، إلى أنقرة.. واستضاف وزير الخارجية التركى، هاكان فيدان، نظيريه الصومالى والإثيوبى، أحمد معلم فقى، وتاى آسكى سيلاسى، وأعقب ذلك بيان مشترك، وصف المحادثات بأنها «صريحة وودية».. وتم تقديم موعد الجولة الثانية من المحادثات غير المباشرة، التى كان مقررًا عقدها أوائل سبتمبر فى أنقرة، إلى أغسطس، مما أثار توقعات بحدوث تطورات كبرى لم تتحقق فى النهاية على أرض الواقع.. إلا أنه، وفى خطوة خلطت كل الأوراق، أعلن الرئيس الصومالى، حسن شيخ محمود، فى خطاب تليفزيونى قوى، مساء السابع عشر من أغسطس، أن بلاده لن تجرى المزيد من المحادثات مع إثيوبيا، ما لم «تعترف بسيادة الصومال»، الأمر الذى يعرض مستقبل الوساطة التركية للخطر.
ويأتى اختيار تركيا للعب دور الوسيط، بسبب علاقاتها القوية مع طرفى الصراع، حيث تُعد أنقرة أحد اللاعبين الإقليميين البارزين فى منطقة القرن الإفريقى ذات الأهمية الجيوستراتيجية العالية.. ولدى تركيا مصالح متعددة الأوجه فى إثيوبيا، ويقال إنها ثانى أكبر مصدر للاستثمار الأجنبى المباشر فى الدولة الإفريقية بعد الصين.. وبحسب السفير التركى فى أديس أبابا، يوجد نحو مائتى شركة تركية تعمل فى إثيوبيا، فى مختلف القطاعات، لا سيما البناء، والأدوية، وصناعة الأغذية.. وتعد الدولة الواقعة فى شرق إفريقيا أيضًا واحدًا من أكبر المشترين للطائرات بدون طيار والذخيرة التركية فى القارة.. ومن ناحية أخرى، تشكل الصومال العمود الفقرى للنفوذ التركى فى المنطقة، حيث تستضيف أكبر قاعدة عسكرية تركية فى الخارج.. كما تنشط تركيا فى الدولة ذات الموقع الاستراتيجى منذ عام 2011، وفى فبراير الماضى، وقّع الطرفان اتفاقية دفاعية اقتصادية، تساعد أنقرة بموجبها الصومال فى الدفاع عن مياهها الإقليمية، مقابل فوائد اقتصادية لأنقرة.. فيما يشير بعض المحللين إلى أن استعداد أنقرة للتوسط فى هذه المنطقة الحساسة جيوسياسيًا، هو جزء من استراتيجية أوسع، لتعزيز نفوذها فى إفريقيا، من خلال أدوات القوة الناعمة، مثل تقديم الدعم الاقتصادى والدبلوماسى والمساعدات الإنسانية.
ويبدو أن الاستثمارات التركية الكبيرة فى البلدين، تشكل أيضًا عامل تحفيز لأنقرة، لمنع تدهور العلاقات بينهما، إذ إن أى حرب وشيكة فى المنطقة قد تهدد مصالح أنقرة.. وبحسب تونتش دميرتاش، الأستاذ المساعد للعلاقات الدولية بجامعة مرسين، فإن النزاع الحالى له تأثيرات جيوسياسية أوسع نطاقًا، تتجاوز مخاوف الصومال وإثيوبيا، حيث قد يؤثر على جيبوتى وحوض البحر الأحمر، وبالتالى مصر واليمن والمملكة العربية السعودية والسودان.. وتسعى تركيا إلى الحفاظ على التوازن بين الاضطراب المحتمل لمصالحها الجيوستراتيجية، ومخاطر السماح للجهات المسلحة من غير الدول والمنظمات الإرهابية بالتورط فى هذه العملية.. وما مبادرة تركيا فى هذه الوساطة إلا محاولة من أنقرة للعب دور فى دعم والدفاع عن القانون الدولى داخل النظام العالمى، باعتبار أن مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال لا تعتبر سارية المفعول.
ويمثل النزاع المتصاعد بين مقديشو وأديس أبابا اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدبلوماسية التركية على سد الفجوة بين دولتين اتسمت علاقاتهما تاريخيًا بالعداء المتبادل.. وفى هذا السياق، كان لافتًا أن أنقرة لجأت إلى الدبلوماسية على أعلى مستوى، حيث التقى الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، الرئيس الصومالى، حسن شيخ محمود، ورئيس الوزراء الإثيوبى، أبى أحمد، بشكل مباشر، أو عبر محادثات هاتفية، لكسر الجمود بين الطرفين.. لكن هذه الجهود لم تنجح بعد فى تحقيق تحسن ملموس، حيث يرى بعض المحللين أن إلغاء مذكرة التفاهم فقط، بين أديس أبابا وأرض الصومال، من شأنه أن يشجع الصومال على بدء المفاوضات.. وقد طالبت مقديشو أديس أبابا بعدم عسكرة طموحاتها الاقتصادية، وأن تطوير قاعدة عسكرية فى البحر الأحمر، من شأنه أن يشكل خطرًا أمنيًا على الدول الإقليمية التى تخشى صعود النفوذ الإثيوبى.. وبدلًا من ذلك، فإن الصومال «سيفتح موانئه أمام التجارة الإثيوبية، كما هو الحال فى جيبوتى وكينيا وتنزانيا».
ومع ذلك، وفى ضوء التقارير المسربة التى تتحدث عن طلب إثيوبيا وساطة تركية، هناك مؤشرات على أن أديس أبابا لا تريد تصعيد النزاع، لكنها تهدف إلى جعل الصومال وتركيا يدركان حاجتها إلى منفذ بحرى، بسبب مخاوفها الاقتصادية والأمنية.. وأشار وزير الخارجية التركى، إلى أن التوترات بين البلدين قد تنتهى بحصول إثيوبيا على الوصول إلى البحر عبر الصومال، طالما اعترفت بسلامة أراضيها وسيادتها.. لكن هناك تساؤلات، حول كيفية حل العقدة التى تُجسدها المواقف المتناقضة، التى تعكسها مذكرة التفاهم مع أرض الصومال، بشأن البحر الأحمر، إذ سيكون من الصعب على الجانب الإثيوبى التراجع عن مذكرة التفاهم، وذلك لن يحدث، إلا بشرط ضمان البدائل التى تلبى مُتطلبات أديس أبابا الأمنية والاقتصادية.
ورغم أن الجانب الاقتصادى يمكن أن يتحقق من خلال اتفاق مع الصومال، فإنه سيكون من الصعب على مقديشو أن توافق على القاعدة العسكرية التى تطالب بها إثيوبيا لتأمين مصالحها.. وبالتالى، فإن الجهود التركية لا تزال بعيدة كل البعد عن إقناع الطرفين بتقديم التنازلات.. لأن رغبة إثيوبيا فى فصل ملف مذكرة التفاهم، عن المفاوضات بشأن الوصول إلى البحر، ستؤدى إلى فشل الوساطة التركية «الآن وفى المستقبل».. إلا أن ما يجب الاعتراف به أنه لا توجد «عصا سحرية» لحل مشاكل بهذا التعقيد والعمق، لكن هذا لا يعنى أن الجهود باءت بالفشل «بعد اجتماعين أو ثلاثة».. وعلاوة على ذلك، فإن قبول الطرفين الدبلوماسية كأداة للتغلب على الأزمة، يُشكّل فى حد ذاته نجاحًا يستحق الدعم، من أجل منع إمكانية اندلاع صراع مسلح فى المستقبل.
●●●
ملف القرن الإفريقى ذاته كان واحدًا من نقاط الالتقاء بين مصر وتركيا.. إذ استعرض الرئيس السيسى والتركى، رجب طيب أردوغان، فى آخر لقاء بينهما، الأوضاع هناك، وخصوصًا فى الصومال، حيث اتفقا على ضرورة الحفاظ على وحدة الصومال الشقيق وسيادته وسلامة أراضيه، ضد التهديدات التى تواجهه.. مما يعنى، أن المشهد الجيوسياسى المتغير يشكل عاملًا حاسمًا آخر لدفع تركيا ومصر إلى إعادة معايرة علاقتهما، وإيجاد مجالات للتعاون، على الرغم من خلافاتهما السابقة.. وقد كان قيام الرئيس عبدالفتاح السيسى بأول زيارة رئاسية له إلى تركيا، منذ اثنى عشر عامًا، نقطة تحول، بعد سنوات من العلاقات المتوترة، ومثلت بداية حقبة جديدة فى العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بين القوتين الإقليميتين، بعد علاقة معقدة بين مصر وتركيا، وإعلان بأن زمن التنافسات الأيديولوجية قد ولى؛ والآن يبدو أن البراجماتية والمصالح الاقتصادية هى المحركات التوجيهية.. وتتجلى المخاوف والمصالح المشتركة فى العديد من الصراعات الإقليمية، بما فى ذلك تلك الموجودة فى غزة وليبيا والسودان والقرن الإفريقى.
فى الواقع، يشترك البلدان فى مصالح اقتصادية كبيرة، مما يشجعهما على تحسين العلاقات. وخلال المؤتمر الصحفى المشترك، قال الرئيس أردوغان إن تركيا ومصر أكدتا عزمهما على تعزيز التعاون فى كل المجالات، بما فى ذلك الصناعة والدفاع والصحة والبيئة والطاقة.
كما عُقد اجتماع رفيع المستوى لمجلس التعاون الاستراتيجى، حيث أشرف الزعيمان على توقيع 17 اتفاقية عبر قطاعات مختلفة، بما فى ذلك التعليم والبنية التحتية والطيران والنقل والصحة والطاقة. وتسعى تركيا إلى أن تصبح مركزًا للإمداد الأوروبى من خلال استيراد الغاز الطبيعى المسال من مصر واستئناف شحن البضائع بين ميناء مرسين التركى والإسكندرية فى مصر. وكذلك تهدف القاهرة وأنقرة إلى زيادة حجم التجارة من 10 مليارات دولار إلى 15 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
ويبدو أن المشهد الجيوسياسى المتغير يشكل عاملًا حاسمًا آخر يدفع تركيا ومصر إلى إعادة معايرة علاقتهما وإيجاد مجالات للتعاون على الرغم من خلافاتهما السابقة. وتتجلى المخاوف والمصالح المشتركة فى العديد من الصراعات الإقليمية، بما فى ذلك تلك الموجودة فى غزة وليبيا والسودان والقرن الإفريقى.
●●●
وبخلاف تركيا وروسيا وفرنسا والصين، وغيرها، كلاعبين دوليين فى القرن الإفريقى، تبدو الولايات المتحدة لاعبًا آخر فى المعادلة.. التى تضع عينًا على محاربة الإرهاب وأخرى على التجارة الدولية فى البحر الأحمر. وفى تتويج للتعاون العسكرى بينهما، وقّعت كل من مقديشو وواشنطن اتفاقًا عسكريًا منتصف فبراير الماضى، تقوم بموجبه واشنطن بتعزيز قدرات الجيش الصومالى، فى مواجهة حركة الشباب المجاهدين.. وتُعد هذه الخطوة امتدادًا للانخراط العسكرى الأمريكى فى الساحة الصومالية، الذى شهد تناميًا مستمرًا منذ مايو 2022، حين قرر الرئيس الأمريكى، جو بايدن، إرسال المئات من الجنود الأمريكيين إلى الصومال، فى تراجع لافت عن سياسة الانسحاب من «الحروب الأبدية»، التى أطلقها سلفه دونالد ترامب.. هذا القرار الذى عكس الأهمية الجيوستراتيجية والأمنية للصومال، المُشرف على كل من المحيط الهندى وخليج عدن والبحر الأحمر، حيث يمثل بوابة مفتاحية إلى شرق وعمق القارة الإفريقية، ونقطة محورية فى القرن الإفريقى، الذى يشكل إحدى ساحات الحرب الباردة الحالية بين واشنطن ومنافسيها.
وتبرز التطورات الأخيرة فى جنوب البحر الأحمر فى كواليس الاتفاق العسكرى الذى عقدته واشنطن مع مقديشو، إذ تربط عديد من التحليلات بين الهجمات التى يقوم بها الحوثيون على المصالح الغربية قرب باب المندب، ورغبة الإدارة الأمريكية فى دعم وجودها العسكرى والاستخبارى فى الصومال، القريب من مسرح العمليات هذا.
وتذهب ورقة صادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات إلى أن قرار بايدن بإعادة جنوده إلى الصومال، جسّد رغبته فى تعزيز حضور واشنطن فى ذلك البلد، بعد أن شهدت العلاقات بين الطرفين توترًا كبيرًا، فى عهد الرئيس الصومالى السابق، محمد عبدالله فرماجو، 2017- 2022.. وفى هذا السياق، كان لافتًا توقيت إعلان القرار، الذى تلا بيوم واحد انتخاب حسن شيخ محمود، رئيسًا للصومال فى 15 مايو 2022، مما اعتبرت حينها رسالة دعم مباشرة لشيخ محمود، الذى وضع مواجهة التحديات الأمنية على رأس أجندته، مع تزايد نشاط حركة الشباب، عقب سحب ترامب قوات بلاده من الصومال، فى ديسمبر 2020.
بجانب هذا، حملت الخطوة الأمريكية مؤشرًا إلى محاولة استباقية من واشنطن لتقليص التداعيات الأمنية المتوقعة، لانسحاب القوات الإفريقية من الصومال بنهاية العام الحالى، والتى تُشكل ظهيرًا حيويًا للجيش الصومالى فى معركته مع حركة الشباب، مما سيُلقى بتبعة تولى المهام الأمنية فى البلاد على كاهل القوات الصومالية، فيما قبل تشكيل قوة بديلة، تابعة للاتحاد الإفريقى، خصوصًا وأن الأعوام الأخيرة شهدت تعاظمًا مستمرًا فى قوة حركة الشباب فى الصومال، وهو ما اضطر ستيفن تاونسند، القائد السابق للقوات الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم»، إلى وصفها، مطلع عام 2022، بأنها «قادرة على التكيف، ومرنة، ولديها القدرة على مهاجمة مصالح الغرب وشركائه فى الصومال وشرق إفريقيا».. وفى مواجهة هذا التطور، ترمى واشنطن، من خلال تنشيط حضورها العسكرى والأمنى فى الصومال، إلى تقويض الحركة ومحاصرتها، وحماية حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين من استهدافاتها.
وأورد تقييم «التهديد الإرهابى العالمى» لعام 2024- الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن- حركة الشباب ضمن أهم المُهددات الأمنية فى شرق إفريقيا، إذ قامت الحركة بهجمات دامية على أهداف عسكرية ومدنية فى كل من أوغندا وكينيا.. وتضمن ذلك أيضًا، هجومها على قوات كينية وأمريكية، فى قاعدة بخليج ماندا فى كينيا عام 2020، كما هددت باستهداف جيبوتى، التى تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى إفريقيا.
من جانب آخر، تبدو واشنطن معنية بالحيلولة دون تمدد نشاطات حركة الشباب، إلى الجوار الملتهب فى كل من إثيوبيا والسودان.. ففى هذين البلدين، تتيح السيولة الأمنية الناتجة عن الحرب فى السودان والصراعات الداخلية فى إثيوبيا الفرصة للحركة للتغلغل داخلهما وفتح جبهات جديدة لنشاطاتها الإرهابية، إذ تمثل هذه البيئات الهشة أجواء مثالية لنشاطات التنظيمات المسلحة.. وقد تم إحباط هجمات متكررة لحركة الشباب، استهدفت إحداها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا صيف عام 2022، فى حين أن نفاذ الحركة إلى السودان يعنى صنع حزام من الفوضى الأمنية، يمتد من غرب القارة فى منطقة الساحل إلى شرقها.
وتصف ورقة صادرة عن مركز بروكينجز القارة الإفريقية بأنها إحدى المناطق التى تشهد «فجر الحرب الباردة الثانية»، حيث تحوّل القرن الإفريقى، خلال العقد الأخير، إلى ساحة اختبار قوة حاد، بين الولايات المتحدة ومنافسيها الدوليين، وعلى رأسهم الصين وروسيا.. وفى هذا السياق، يذهب مقال- شاركت فى كتابته البروفيسورة المساعدة فى جامعة كاليفورنيا، سمر البلوشى- إلى أن خطة الحكومة الأمريكية لتدريب قوات الأمن الصومالية تمثل استراتيجية غير مباشرة، ليس فقط لتوسيع الوجود العسكرى الأمريكى فى الصومال، بل لمواجهة أكثر حزمًا مع القوى الأخرى المنافسة فى المنطقة.. وفى هذه المقاربة، تستند البلوشى إلى أن المادة 1202 من قانون تفويض الدفاع الوطنى لعام 2018، توسِّع قدرة الولايات المتحدة على شن الحرب، عبر قوات بديلة، فى الأماكن التى لم يتم إعلان الحرب رسميًا فيها، بهدف مواجهة نفوذ الخصوم، مثل الصين وروسيا.
أيضًا، تشير ورقة صادرة عن جامعة براون الأمريكية إلى أن مجموع ما أنفقته واشنطن على محاربة الإرهاب فى الصومال، بين عامى 2007 و2020، زاد على مليارى ونصف المليار دولار، توزعت على مجالات مختلفة، كالتدريب والتسليح والدعم اللوجستى والاستخبارى.. ومنذ مايو 2022، يقدم أربعمائة وخمسون جنديًا أمريكيًا المشورة للجيش الصومالى، وينخرطون فى برامج تدريب متنوعة، تتضمن أيضًا القوات الإفريقية العاملة فى البلاد.. ووفقًا للتفاهم الأمريكى الصومالى الأخير، سيعمل البنتاجون على بناء خمس قواعد عسكرية، لتدريب قوات «داناب» فى جنوب البلاد، الذى تنشط فيه حركة الشباب، مما سيسهم فى زيادة القدرات الاستخبارية الميدانية، من خلال الاتصال المباشر مع العشائر القاطنة فى المنطقة.. ويمثل داناب «أى البرق باللغة الصومالية»، أحد أهم الاستثمارات الأمريكية فى القطاع العسكرى الأمنى فى الصومال، وهو لواء لقوات التدخل السريع، تم إنشاؤه عام 2014، يبلغ قوامه قرابة ألف وخمسمائة جندى، ويستهدف البنتاجون زيادته إلى ثلاثة آلاف، إذ يمثل رأس الحربة فى المعركة مع حركة الشباب.. وتتولى واشنطن الإشراف على «داناب»، إذ تقوم شركة بانكروفت الأمنية الأمريكية الخاصة بتقديم التدريب الأساسى لجنودها، فى حين تقدم القوات الأمريكية الخاصة التدريب المتقدم.. وتوصف هذه الوحدة بالاحترافية وببعدها عن المناورات السياسية العشائرية فى الصومال، نتيجة السيطرة الوثيقة للولايات المتحدة عليها، فهى لا تكتفى بتدريبها فقط، بل توفر لها الدعم اللوجستى والتسليحى والرواتب الثابتة، بجانب التغطية الجوية لهجماتها.
وتعتبر الغارات الجوية، إحدى الركائز الأساسية للعمليات الأمريكية التى تستهدف حركة الشباب فى الصومال.. وقد اعترفت واشنطن بتنفيذها تسع عشرة ضربة جوية خلال عام 2023، فى انخفاض لافت عن الذروة التى بلغتها عام 2019 بما مجموعه ثلاثة وستين غارة جوية، إذ تنطلق المسيرات الأمريكية من القواعد العسكرية فى المنطقة، ولا سيما قاعدة ليمونييه فى جيبوتى، وتستهدف قادة حركة الشباب، وترد على هجمات الحركة، بجانب تقديم الغطاء الجوى للعمليات الهجومية للقوات الصومالية.
وقد قدم الانخراط العسكرى الأمريكى فى الصومال دعمًا حيويًا لبلد يعانى من تبعات انهيار الدولة، منذ تسعينيات القرن الماضى، حيث وفَّر، على سبيل المثال، الغطاء الجوى الذى تفتقر إليه القوات الصومالية.. غير أن العديد من الانتقادات توجه إلى النهج العسكرى الذى اتبعته السياسة الأمريكية فى الصومال، إذ إن اعتمادها على الضربات الجوية، على أهميته، يكشف محدودية القدرة على السيطرة على الأرض، دون توفر قوات برية مصاحبة، كما أن خطر إلحاق هذه الضربات الضرر بالمواطنين وممتلكاتهم يهدد بتقويض الدعم الشعبى لجهود واشنطن.. هذه التحديات وغيرها، دفعت دانيال لاريسون، المحرر الكبير فى مجلة American Conservative- إلى التساؤل عن جدوى الاستراتيجية التى تتبعها الولايات المتحدة، بالنظر إلى التنامى المستمر للتهديدات الإرهابية فى الصومال، رغم مليارات الدولارات التى أنفقتها واشنطن خلال قرابة عقدين من الزمان.
إلى جانب ما سبق، يُلقى الغموض المرتبط بنتائج الانتخابات الأمريكية، التى جاءت بدونالد ترامب ثانية إلى البيت الأبيض، بظلال كثيفة على مستقبل النشاط العسكرى الأمريكى فى الصومال، حيث تؤشر باحتمالات سحب ترامب قوات بلاده، كما فعل سابقًا.. لذلك، تقترح ورقة نشرتها مجموعة الأزمات الدولية عددًا من الخطوات لجعل التحركات الأمريكية أكثر فاعلية واستدامة.. وتتعلق الإجراءات المقترحة بشكل رئيسى بدعم الجهود غير العسكرية لتحقيق الاستقرار فى الصومال، من خلال تعزيز الجهود الرامية إلى تحقيق المصالحة على كل مستويات الدولة والمجتمع الصوماليين، ودعم حوارات السلام المحلية، والتوسع فى المشاريع التى تشتد حاجة المجتمع إليها، كإصلاح الآبار وتسهيل تقديم الخدمات.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.