خسارة تايسون ونهاية عصر المقاتلين
سُئل مايك تايسون ذات مرة وهو فى بدايات العقد الخامس من عمره، ما هى طقوسك التى كنت تمارسها قبل المباراة؟، فجاءت إجابته صادمة للمحاور، أجاب: «أنا كنت أبكى بشدة قبل كل مباراة». فسأله المحاور متعجبًا: تبكى وأنت بطل العالم للوزن الثقيل فى الملاكمة، أنت أعظم المحاربين فى العصر الحديث، كيف لى أن أصدق أنك كنت تبكى كالأطفال قبل المباريات، ثم تخرج على الحلبة كوحش كاسر يحطم جميع الأبطال أمامه!. فيبتسم تايسون بمرارة، ويجيب: كنت أبكى، لأنى سأتحول على الحلبة إلى شخص آخر لا أحبه، كنت أودع نفسى قبل كل مباراة، فالأمر أصبح لا يتعلق بالملاكمة أو الرياضة عمومًا، لكن المباريات هى ساحة لصراع الأموال والمنظمات والرهانات، المستغلة للملاكمة، فقد كنت مضطرًا أنا أتحول إلى ذلك الوحش، لأخوض معركة ضد كل هؤلاء، وليس ضد خصمى فى المقام الأول.
مايك تايسون ليس فقط ملاكمًا شهيرًا، أو بطلًا له صولاته وجولاته على الحلبات، أو صاحب مدرسة خاصة لكل المهتمين أو الممارسين للملاكمة بشتى أشكالها. ولكنه مثّل دراما تراجيدية متكاملة الأركان، ذلك الشاب الذى بدأ من العدم، ليقرر أن يبنى تاريخه بذراعه حرفيًا، حتى ينال لقب بطل العالم للوزن الثقيل عام 1986 عن عمر لم يتجاوز 20 عامًا، ليصبح أصغر بطل للوزن الثقيل فى التاريخ، لم يتحقق إلى الآن. ثم يخوض بعد ذلك مباراته الأشهر ضد «لارى هولمز» عام 1988، تلك المباراة التى وضعته على أول سلم الشهرة، لأنه خاضها انتقامًا لـ«محمد على كلاى» بعد إهانة «هولمز» له فى مباراته الأخيرة، وقد كان تايسون من عشاق محمد على، فقرر أن ينتقم لمثله الأعلى، ليقضى على هولمز بالضربة القاضية فى الجولة الرابعة، ليتحول تايسون من مجرد ملاكم عظيم، إلى بطل شعبى لكل عشاق محمد على.
فيصبح تدريجيًا أكثر الملاكمين شهرة وقوة وثروة، ويتحول إلى مارد عظيم يملك العالم بين قفازيه. ولكن سرعان ما تدخل حياته أكثر فصولها درامية، حينما يدخل السجن 1992 على إثر اتهامه بالاعتداء الجنسى على ملكة الجمال السمراء لولاية «إنديانا»، ليقضى فى السجن ثلاث سنوات، وكان من المرشح أن يخرج منه قاتلًا محترفًا أو مجرمًا كبيرًا، فى نهاية تليق بمأساة بطل التراجيديا، ولكن المفاجأة أن يعود إلى حلبات الملاكمة من جديد، ليحقق نجاحًا ساحقًا عام 1995، ويُنهى لقاءه مع «بيتر مكنيلى» بطل العالم آنذاك فى الجولة الأولى، بالضربة القاضية، ليستعيد لقبه، ويبدأ تاريخه من جديد.
تايسون لم يكن ملاكمًا عاديًا، بل أيقونة ثقافية عبرت حدود الرياضة، قصة حياته المعقدة والمضطربة من القمة إلى القاع، من الثروة إلى الإفلاس، إلى القمة مجددًا، من الهزيمة إلى جولات متتالية من الانتصارات، حولته من مجرد ملاكم عظيم إلى رمز يخوض معارك الحياة ببراءة لا تليق بالمحاربين، منح جيله والأجيال التى تلته معنى خاص بالوجود. فالملاكمة لمن يعرفها جيدًا هى عالم متكامل من الصراع والدراما المعقدة، داخل الحلبة تتشكل حياة كاملة من الألم والأمل، فكل الهزائم الموجعة فى العالم قد تتحول بين أركان الحلبة فى لحظة إلى انتصارات عظيمة، وقد تنتهى بمأساة.
تايسون الذى يبلغ من العمر الآن 58 عامًا، خاض منذ يومين مباراته الأخيرة ضد «جيك بول» صانع المحتوى الشهير التافه، والمبتدئ فى عالم الملاكمة، لينهى تاريخه الذى لا يخفى على أحد، أمام ملاكم استعراضى، لا يهدف إلا إلى زيادة عدد متابعيه على صفحاته فى العالم الافتراضى، الذين وصلوا إلى 70 مليون متابع. تايسون فقد تاريخه أمام زيادة عدد المتابعين على صفحات «جيك بول». تلك الحقيقة التى أدركها «تايسون» بعد هزيمته أمام نفسه وتاريخه وأمامنا جميعًا، ليصرح بأنه قرر اعتزال الملاكمة لفقدانه أى رغبة أو شغف فى أى قتال قادم.
الأمر أكثر تعقيدًا من وجهة نظرى من مجرد رجل بلغ من الكبر عتيًا، قرر أن يتوقف عن ممارسة الملاكمة، رغم ما بدا على جسده من قوة لا تليق بمرحلته العمرية، ولكن أصبح العالم لا يليق بتايسون وأمثاله من المقاتلين، فالرجل كان يدرك جيدًا أنه مباراته الأخيرة ليست إلا مباراة استعراضية لا أكثر، وأن سنه ولياقته ليست بالتأكيد كسابق عهده فى نسخته القديمة، وأن حالته الصحية التى كان يعانيها مؤخرًا لن تضعه فى قالبه الصحيح، رغم قتاله ضد الضعف والسن والمرض، ولكنه أدرك فى العمق كما أدرك كل من مثل لهم تايسون أيقونة القوة والمقاومة، أن هزيمته لم تكن أمام شاب يبلغ من العمر 27 عامًا، وإنما أمام ما يمثله من عالم افتراضى يحكم العالم. مجرد أرقام من المتابعين هى المحرك الوحيد لكل ما يُقدم من محتوى حقيقى أو وهمى. فـ«بول» قرر أن يخوض عالم الملاكمة أقوى الرياضات القتالية وأنبلها على الإطلاق، ليحقق مكاسب دعائية كبيرة لا أكثر، وتُعرض المباراة على منصة Netflix، وكأننا أمام فيلم خيالى من إنتاج أكثر المنصات إثارة للجدل، ما أفقد رياضة الملاكمة أهم ما يميزها عن بقية الرياضات القتالية، وهو المصداقية، والألم الحقيقى الذى يصنع الأبطال، ويُلهم الشعوب.
صحيح أن المباراة انتهت بحصول «جيك بول» على 30 مليون جنيه إسترلينى، وتايسون على نصف هذا المبلغ، وهو مبلغ ضخم قد ينقذ تايسون من إفلاسه المعلن منذ سنوات، لكن فى العمق، مثلت هذه المباراة نهاية عصر المقاتلين أمام زمن المتابعين، فتايسون قد هزمنا جميعًا بالضربة القاضية، ليس لنهايته التى لا تليق أمام أحد الهواة، ولكن لخوضه المباراة من الأساس، وعدم إدراكه قواعد اللعب فى زمن المنصات لا المباريات. مايك تايسون لم يبك قبل هذه المباراة كما تعود ليتحول إلى ذلك الوحش الذى يخوض المعارك ضد الضعف والهزيمة والفشل، لكن من المؤكد أنه بكى بعدها كثيرًا.