الإعلام والفكر الاستراتيجى.. "المشهد" نموذجًا
شاهدت وباهتمام شديد عشية الانتخابات الأمريكية حلقة تليفزيونية من برنامج «المشهد» الذى يقدمه الإعلامى نشأت الديهى، فقررت أن أكتب هذا المقال بعد أن ظل ذات الموضوع ولمدة طويلة مجرد مشروع فى نيتى الكتابة عنه. مرجعية الأمر أنه برنامج راق يذّكرنى بما كان يقدم قديمًا على شاشة التليفزيون المصرى من برامج جادة تستقطب كبار المفكرين المصريين؛ لمناقشة موضوعات شديدة الجدية بهدف إعلام الرأى العام بتفاصيل قد تخفى عليه أو نقاط يلعب عليها المتآمرون. وفى هذا السياق أتذكر برنامج «واجه الصحافة» فى نسخته القديمة والذى كان يقدمه الراحل أحمد سمير، أو برنامج «أمسية ثقافية» للراحل الكبير فاروق شوشة، أو برنامج «ندوة للرأى» للإذاعى الراحل حلمى البلك، وغيرها من البرامج مما لا يحضرنى اسمه حاليًا.
وجه متابعتى ثم إشادتى بهذا البرنامج هو أننا أصبحنا فى حاجة ماسة لجدية إعلامية تليق بالظرف الوطنى وبالأحداث السياسية فى محيطنا الإقليمى وأن نستدعى أصحاب العقول المصرية الراجحة ليقدم كل منهم رؤيته الثاقبة سواء اختلف مع غيره من الحضور أو اتفق. أتحدث هنا عن جدية وعقلانية وليس عن تجهم أو حنجورية. ومع تقديرى لكل الجهود والأشكال البرامجية التى تقدم حاليًا بين الخبرى والمنوعاتى والترفيهى وخلافه، إلا أننا نفتقد تلك البرامج المعمقة ليس فى موضوعاتها ولكن فى ضيوفها أيضًا من حيث الزخم عددًا وفكرًا وتوجهًا.
أما ما شاع فى الأعوام الأخيرة من حيث تصدى بعض مقدمى البرامج لتقديم حديث مباشر دون ضيوف أو حتى استغلالهم للانترو؛ ليوجهوا النصح والإرشاد ويحاولون فرض وجهة نظرهم على الجمهور، وكأن مقدم البرنامج الوحيد الذى يعلم بواطن الأمور وظواهرها، لا أظن أن هذا أسلوب يليق مع الظرف الذى نعيشه، ولا هو حتى يتسق مع توجهات الدولة المصرية التى تتبنى قيادتها فكرة احترام تعدد الآراء واستيعاب وجهات النظر المختلفة، لدرجة أن الدولة تبنت حوارًا وطنيًا استمعت فيه لكل أصحاب الرؤى طالما أنها أفكار تنطلق من قاعدة وطنية هدفها الصالح العام والأمن القومى.
أما مسألة برامج الرأى ذات الأصوات والأيديولوجيات المتعددة ففيها نفع كبير، ولكن بشروط نوجزها فى ضرورة تعدد المدارس الفكرية والتوجهات السياسية والمراحل العمرية، بحيث لا يحتكر الكلام توجه فكرى أو أيديولوجى محدد ولا جيل بعينه ولا حتى جندر واحد. ومن جانبهم، يفترض أيضًا أن يذاكر المتحدثون ملف الحلقة ويحدّثون من معلوماتهم بشأن موضوعها قبل دخول الاستوديو، لا أن يكتفوا بسابق خبراتهم والتى غالبًا ما تكون قد تقادمت أو عفا عليها الزمن.
فضلًا على حتمية تمّرس المذيع وخبرته بالموضوع المطروح، وهو ما يستلزم مذاكرة طويلة ومستفيضة منه لملف الحلقة رفقة طاقم إعداد لا يقل كفاءة عن مُسير الحلقة، مع التزام المحاور بندرة التداخل وعدم محاولة فرض رأيه الشخصى على المتحدثين أو حتى تمييز من يتبنى رؤيته من الضيوف بمنحه مزيدًا من الوقت أو أولوية الكلام أو إعطائه فرصًا إضافية للتعقيب على من سبقوه. على أن يحرص فريق الإعداد أن يشمل ملف الحلقة قراءة فى تاريخ الموضوع المطروح وطرح لواقعه، أما المحور الأهم فهو استشراف رؤى المستقبل. ومن ثم يراعى هذه الأمور فى اختيار المتحدثين من خلال قراءة جيدة فى سيرهم وأطروحاتهم.
لا ضير أبدًا أن تكون هناك استفادة بمادة مصورة تتم الاستفادة بها على ويندو جانبى حتى لا يأخذ البرنامج الصبغة الإذاعية، ونفقد ميزة إضافية خلقتها الوسيلة التليفزيونية، ما يضمن جاذبية أكثر ومتابعة أطول. كما لا يمنع الأمر من إضافة تقارير أو شهادات مصورة مع خبراء قد لا يسمح تخصصهم أو وقتهم أو خبراتهم بأن يكونوا ضيوفًا أساسيين فى الاستوديو، ولكن لهم وجهات نظر تطور من الحوار وتعمقه وتضيف له محاور جديدة مفيدة. وعلى المذيع الذى يدير الجلسة أو رئيس تحريره صياغة سريعة لأهم النقاط والرؤى المطروحة؛ ليقدمها المذيع فى نهاية الحلقة كملخص يوجز فيه أهم ما جاء بها من آراء ووجهات نظر.
ومن الانصاف القول إن معظم هذه الشروط المفترضة لنجاح ندوة تليفزيونية- والتى أصوغها بحكم متابعتى كمستمع وكمشاهد، ثم بدافع خبرتى كصانع محتوى إعلامى- توافرت فى حلقات برنامج «المشهد» عامة، وفى حلقة الانتخابات الأمريكية على وجه الخصوص. ومن الانصاف أيضًا أن أشيد بضيوف الحلقة وبتنوعهم الفكرى والثقافى ووجب التنويه إلى أهمية تناول هذا الموضوع من زاوية تأثيراته على واقعنا المصرى والعربى، واتفاق الضيوف على ضرورة اهتمامنا داخليًا بملفى التعليم والصحة كمنطلقين أساسيين لمجا
بهة المستقبل بتحدياته. أما ما أسعدنى كرجل يتبنى الفكر العروبى فهو ما جاء على لسان دكتورة نهى بكر أستاذ العلوم السياسية، والتى تمسكت بالحلم العربى، رغم الأصوات المعارضة لهذا الصوت حاليًا، وقولها إننا لا ينبغى أن نتنافس على الريادة كدول عربية فنحن فى حاجة ماسة إلى بعضنا البعض.