رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفن والحضارة والحرية أساس الدولة المدنية

  

منذ فترة طويلة، اكتشفت أننى أكتب أفضل، حينما أكون مريضة. وتمر فترة التعافى، وكأنها فترة إعادة ترتيب أوراقى، مع العالم، ومع الناس، ومع نفسى. 

وها أنا اليوم، محاطة بأقراص المضاد الحيوى، وكبسولات علاج تشنجات المعدة، التى تعربد كما تشاء، ولا تريد المغادرة. 

صوتى مبحوح، وصورتى شاحبة، وجسدى أصبح غريبًا عنى، أشعر بالغثيان، وترتفع حرارتى بين الحين والآخر. 

فى فترة المرض، تصحو التساؤلات النائمة، كنت أعتقد أننى وجدت إجاباتها منذ زمن طويل. أرتعش من ذكريات الماضى، وكوابيس اليوم، وأشباح الغد. 

بديهيات ترجع وتثير الشكوك. أشياء بسيطة أحس بها، أكبر من الكون. عتاب، وندم، ولوم، وتأنيب الذات، يلدغنى، ومناعتى الضعيفة، تستسلم دون أدنى مقاومة. 

تساؤل واحد، دائمًا يحوم حولى، فى فترة المرض. لا أدرى لماذا هو بالتحديد؟ 

هل أنا حُرة فى هذا العالم؟ 

راحت وجاءت أزمنة، وأنا أزهو بأننى، ذقت طعم الحرية، منذ أن كنت جنينًا فى بطن أمى. راحت وجاءت أزمنة، وأنا أشبك وردة الحرية، بين خصلات شعرى، والثوب الذى يلف قوامى.

أشم رائحة وردة الحرية، فتسرى فى أنسجتى طاقة غامضة تدهشنى. أروى الوردة بدمى، أطعمها بنور الشمس، وفى المساء أدفئها، أغنى لها، وأنام وهى فى أحضانى. 

كسرت تحريم التبنى، وأصبحت طفلتى الوحيدة المدللة، منحتها اسمى، وكل ما أملك، ربيتها، رعيتها، كبرتها، حتى أصبحت شجرة وارفة الظلال، شهية الثمار. 

هل أنا حُرة فى هذا العالم؟ 

أحقًا مشيت كل هذا الطريق الطويل، المفروش بالأشواك، لأصل إلى واحة الحرية، وأنال جائزتها الكبرى؟، وهل يمكننى أن أكتب بكل ارتياح على قبرى: «هنا ترقد امرأة وُلدت حُرة، عاشت حُرة وماتت حُرة». 

هل أنا حُرة فى هذا العالم؟.. سؤال يشاركنى فراش المرض، ويأبى إلا أن يطيل فترة التعافى. 

-٢-

أؤمن مثل الكثير من الفلاسفة والعلماء والمفكرين نساء ورجالًا، أن كل شىء مرتبط بكل شىء. وهذا معناه عدة أمور أساسية هى:

أولًا: ليس هناك ما يمكن أن نسميه قضية تافهة وقضية مهمة. 

ثانيًا: توجد قوانين للتغير والحركة والتطور، يقع تطبيقها على كل الموجودات، وصفتها الأساسية عدم الثبات. 

ثالثًا: الفصل بين الظواهر هو فصل تعسفى. وهو ليس فقط خطأ علميًا. لكنه يقود بالضرورة إلى الجهل والتضليل وعدم المعرفة والتجزئة والتفسيرات غير الصحيحة، التى تؤدى إلى عدم الفهم. وعدم الفهم يقتل الإبداع، ويرسخ الخرافات، ويخفى آفاق التقدم ويعطلها. 

من هذا المنطلق، سأعرض قناعتى، بأن الفن، والحضارة، والحرية، قضايا متشابكة، مترابطة أكثر مما نتخيل. 

كل يوم، هناك عناصر فى الإعلام، مجندة لإهانة الفن، والتربص بالشتائم والاتهامات والسب والقذف، للفنانات والفنانين. جنود الدولة الدينية، الذين يدركون أن أكبر خطر عليهم، هو ازدهار الفن.

إن الفـن يـوجـد لنا مجموعة من الرؤى، لا تختص فقط بالحـاضر والمستقبل، ولكن أيضًا بالماضى.

وإذا كانت مَلكـة التخيل، موجودة عند كل البشر، لكنها أكـثر حضورًا، وإلحاحًا عند أهل الفن. والتخيل هو الذى يجعل الفنـان «أو الفنانة» بطبيعيته ضد كل الثوابت، والبديهيات، الفن هو التساؤل الدائـم المتجاوز كل إجابة.. والفن يضع قوانينه الخاصة، وتوجـد طـرق تذوقه، والنظر إليه.

يتضح من هذه المفردات المميزة للفن، أنه يفترض منذ البداية، حدًا أدنى مرتفعًا من ضمان حريات التعبير، والترحيب بكل أنواع الاختلاف، وعدم الخوف من التساؤل، وهى كلها من سمات مجتمعات الحرية. 

نحن نتعلم من «الفن» كيف نسعد بالقصص، والروايات، وكيـف نستمتع باللوحات، والموسيقى، الصادرة عن عقل وعاطفة «آخـر»، أعظم ما يميزه هو تمرده علينا نحن المتلقين له. أليس هذا تدريبًا جميلًا على الحرية، وتقبل الآخر؟ 

إن أرض الفنون، مفتوحة الحدود لكل الناس، ولا تشترط تأشيرات للدخول، أو إجادة مؤهلات معينة، اللهم إلا التحرر مـن كـل التحيزات المسبقة، والرغبة فى الانفتاح علـى عـوالم مغايرة. هذا الترحيب المتاح للجميع، أليس هو المساواة بين البشر، فى أعلى وأرقى معانيها؟ 

لكننا بين الحين والآخر، نشهد نقاشًا عقيمًا عن العلاقة بين حرية الفنان، وحرية المجتمع، حيث يقول البعض إن للفنان حريتـه، بشرط ألا يمس حرية المجتمع. البعض يرى حرية الفنان محمودة، طالما أنها لا تصدم المألوف والسائد فى المجتمع. مثل هذه الأقاويل، تسىء فهم الفنان، والحرية. فليست «الحرية»، كتلة ماديـة ثابتة. إذا أخذ منها الفنان، سينقص نصيب المجتمع منها.

إن المجتمع حر، قدر ما يضمن، ويرسخ حريات الأفراد، خاصـة حريات أهل الفن. وهذه إحدى المفارقات الجميلة لعطاء الحرية. كما أن «الحرية» متغيرة. وبالمثل ما نسميه «المألوف» و«السائد». فإذا اتفقنا على أن الحياة فى حركة نمو مستمرة، وكذلك البشر. فإن الحرية تنمو بالضرورة هى الأخرى. والمجتمع الذى يريد البقاء، والازدهار لا بد أن يساير هذا النمو، وأن يعيد باستمرار مفهومه للحرية، ورؤيته لما هو مألوف، وسائد. إن أى تقدم حققته الإنسانية، يمكن تعريفه بأنه الغربلة المستمرة للمألوف، وإعادة صياغة للسائد.

إن التخوف الشديد الذى يظهره البعض، من حرية الفنان على المجتمع، لا محل له. إن الفنان مشغول أكثر من غيره، ببنـاء عـالم أكثر جمالًا وشجاعة وعدلًا، ولذلك فإن إبداعه لا يقلب الأشياء. ولكن يعدلها. وهو لا يخرب ولا يفسد. لكنه يعمر، ويبنى. وهذا يستلزم بالضرورة البدء فى هدم الظلم والقبح، لإقامة العدل والجمال.

إن معاداة الفن، أو محاولة تقليص مداه وآفاقه، هى فى الوقت نفسه، معاداة صريحة للحرية، والدولة المدنية بالضرورة. فالمجتمع الذى يتشكك فى الفن، ودور الفنـان، هو فى اللحظة نفسها، يجهض نهضته المادية، والروحية على حد سواء. من هذا المنطلق، لا تكون «الحرية»، حقًا من حقوق الفنان، يضمنه المجتمع ويدعمه. لكنها أيضًا «واجب» على الفنان، لتحقيق رسالته نحـو ذاتـه، ونحو مجتمعه والإنسانية.

إن كل قصة، أو قصيدة، أو قطعة موسيقى، أو لوحة، أو فيلم، أو مسرحية، أو أغنية، إنما هى درجة على سلم الحرية، يصعدها أهل الفن، ويشدون معهم الآخرين فى حـوار جمالى، وتفاعل فكرى، بين طرفين، تمنحهما الحياة أغنى مكنوناتها. 

فى المجتمعات التسلطية بجميع أشكالها، ودرجاتها، حيث القهر هو النغمة السائدة، يتعثر هذا الحوار الجمالى، والتفاعل الفكرى. ويخاف أغلب الأفراد، من الحرية. إن الإنسان، أو المجتمع، الخائف مـن الحرية، يتقبل أى تشخيص أو تبرير لحالته. لكنه لا يتحمل أن يوصـف بالخوف من الحرية، لأن ذلك يعنى الخوف من الحياة ذاتها، بكل ما تحمله من إمكانات النمو، والانفتاح، والمعرفة، والسعادة. 

ولكن وكما قال «سارتر» فى بداية روايته «الغثيان»: «المصيبة أننا أحرار».. أى أن الحرية، هى قدرنا مهما حاولنا الهروب منها. والفـن الحقيقى، خطوات مضيئة نحو هـذا القدر. وعلى المجتمعات الطامحة للحرية، والتحرر، أن تتعـاون مع الفـن بشكل جاد ومستمر، لتحقيق ذلك. 

لكننا فى الفترة الأخيرة حيث أصبح المزاج الشعبى الفنى والثقافى، إخوانيًا، سلفيًا، وهابيًا، نجد أن الفن فى بلادنا، كُتب عليه «القهر»، رغم أنه صانع الحياة، بالضبط مثل المرأة، كُتب عليها «القهر»، وهى واهبة الحياة. 

حب الفن، والكلام عن أهميته، من الشعارات التى ننام، ونصحو عليها. فالواقع يشهد يوميًا، على أن الفن مهمش، فى ذيل الأولويات، وأنه أصبح مطيعًا للمزاج الشعبى الإخوانى السلفى الوهابى. 

وهذا المزاج «المُسيس» بأهواء إخوانية وأفكار سلفية وقناعات وهابية، يكره أصلًا الفنون بكل تنويعاتها، ويعاديها جهرًا، يشتمها ويشتم أهلها بالبذاءات واللعنات، خاصة من النساء. وهو ينتظر «السقطة واللقطة» لكى يصف الفن وأهله، بالفسق والفجور وإفساد الفضيلة والعادات والتقاليد وقلة الدين وعدم الخوف من ربنا وعذاب جهنم فى الآخرة. مزاج شعبى يهلل فرحًا عندما تعلن فنانة الاعتزال من الفن والتحجب، وعندما يعلن فنان عن توبته عما ارتكبه من إبداع. 

هذا هو المزاج الشعبى الفنى الثقافى السائد منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى. ولكن ماذا عن الدولة؟. لا بد أن تقف داعمة للفن، متضامنة معه. لا بد أن تتدخل وتلغى الرقابة الإخوانية السلفية الوهابية، التى تفرض الوصايا على الفن المقدم للناس. على الدولة أن توقف بالعمل على أرض الواقع، بكل الوسائل، محاكم التفتيش الأرضية والفضائية التى تسب الفن ليل نهار، وخصصت له لجانًا إلكترونية تتفرغ لهذه المهمة. 

أعتقد أن الدولة إذا اهتمت بفئة المبدعات والمبدعين فى كل مجالات الفن، بشكل يجعل منهم نساء ورجالًا، من مكونات صنع القرار فى أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة، فسوف يُحترم الفن والإبداع، ولن يصبح «الحائط المائل» للقذف بالحجارة. 

من الضرورى أن تكون للفنان، والفنانة، كرامة، مساوية لكرامة، رجال ونساء المناصب المرموقة، والمناصب العليا. 

نترك الفنانة، أو الفنان، يعانى من الشيخوخة، والاكتئاب، والكآبة، التى فى حقيقتها ليست شيخوخة، وليست عجزًا عن العطاء. ولكنها نتائج طبيعية من إهمال المجتمع، وحجبه عن المشاركة، والحكم عليه بالإعدام، على فراش الوحدة والتجاهل وعدم العرفان بالجميل، والمعاش الضئيل، «قلة القيمة» المقرر من الدولة، وبعد الموت ناقص العمر، والتحقق والبهجة، نشيعه، وننعاه، بأسى، وحسرة، بدموع التماسيح.