«حيّوا الأسطول».. كيف كسرت «البحرية المصرية» الغرور الإسرائيلي بعد النكسة؟
- لماذا كانت القوات البحرية تحتفل بعيدها في 29 أغسطس من كل عام؟
- عملية "إغراق المدمرة إيلات" تصنع عيدا جديدا للقوات البحرية بعد النكسة بأسابيع
- "الصاعقة البحرية" تخترق ميناء إيلات 3 مرات في 6 أشهر.. وإسرائيل "تندهش" في كل مرة!
جاء يوم 29 أغسطس عام 1967 بلا احتفالات على غير العادة. يوم حزين جديد يضاف إلى "الأيام الصامتة" التي تلت النكسة. في 29 أغسطس من كل عام كانت الصحف تمتلئ بالأخبار والتهاني بمناسبة الاحتفال بعيد القوات البحرية المصرية. ولأن الروح المعنوية العامة لم تكن في أفضل حال بعد الهزيمة بنحو شهرين، كان الصمت سيد الموقف.
لكن عام الهزيمة نفسه أبى أن ينقضي قبل إعادة الثقة والفرحة إلى نفوس أبطال القوات البحرية ومصر كلها، فينتقل عيد البحرية المصرية من 29 أغسطس إلى 21 أكتوبر من كل عام.. ولهذه الرحلة بين التاريخين حكاية تكشف فصولًا من رحلة مصر في البحث عن ذاتها.
29 أغسطس كان عيدًا للبحرية
لماذا كانت مصر تحتفل بعيد قواتها البحرية في 29 أغسطس من كل عام؟ في أرشيف تسجيلات الإذاعة المصرية نصادف عدة أغنيات وأناشيد تحتفي بالبحرية المصرية وتاريخ الأسطول المصري، يجمع بينها جميًعا أن تاريخ تسجيلها في ستوديوهات الإذاعة المصرية يوافق شهر أغسطس على اختلاف الأعوام، في إطار استعدادات المطربين وأجهزة الإعلام للاحتفال بعيد البحرية في 29 أغسطس من كل عام.
فتخبرنا دفاتر ستوديوهات الإذاعة مثلا أن المطربة شريفة فاضل سجّلت نشيد "تحيا البحرية" في 21 أغسطس عام 1960 من كلمات بيرم التونسي وألحان علي إسماعيل، وبعدها بيومين فقط سجّل المطرب محمد قنديل نشيد "حيوا الأسطول" من كلمات عبدالله أبو رواش وألحان محمود الشريف في 23 أغسطس 1960، وفي النشيد يهتف: "حيوا الأسطول حيوا رجاله، فتيان البحر وأبطاله".
وفي هذا النشيد تحديدًا نجد تفسيرًا مبدئيًا لسبب اختيار 29 أغسطس عيدًا للقوات البحرية، فيغني محمد قنديل: "حيوا البحرية العربية في يوم معاركها التاريخية، ذات الصواري المشهورة جمعتنا في وحدة قوية".
و"ذات الصواري المشهورة" هي معركة ذات الصواري البحرية التي وقعت عام 35 هجرية أو 655 ميلادية بين الأسطول البيزنطي وأول أسطول عربي إسلامي، وفيها انتصر المسلمون في أولى معاركهم البحرية التي أنهت سيطرة البيزنطيين على البحر الأبيض المتوسط. فما علاقة مصر بهذا التاريخ؟
بعد فتح بلاد الشام ومصر أدرك المسلمون أن الأسطول البيزنطي يمثل مصدر تهديد دائم لاستقرارهم في البلاد المفتوحة على شواطئ البحر المتوسط، ولم يكن للمسلمين سابقة يُعتد بها في حروب البحر، وكانت البداية في عهد خليفة المسلمين عثمان بن عفان بالاتجاه إلى بناء أسطول بحري إسلامي تكون نواته السفن التي استحوذ عليها المسلمون في موانئ مصر والشام.
ولمّا كان الصحابي عبدالله بن أبي السرح واليًا على مصر فقد تولّى مهمة بناء الأسطول بالتعاون مع أولى الأمر في بلاد الشام، وأسهم في إدارة معركة ذات الصواري التي انتهت بأول نصر للعرب والمسلمين بقوة بحرية.
"الجمهورية العربية" تبحث عن ذاتها
ورغم ما للأسطول البحري المصري من تاريخ طويل يمتد إلى فراعنة مصر القديمة، إلا أن الرئيس جمال عبدالناصر رأى في يوم 29 أغسطس موعدًا أفضل ليكون عيدًا للقوات البحرية في مصر لأسباب قومية عربية لها ظروفها التاريخية.
كان أمام الرئيس عبدالناصر أنا يختار يوم 4 نوفمبر من عام 1956 عيدًا للقوات البحرية المصرية لإحياء ذكرى معركة البرلس البحرية ضمن معارك العدوان الثلاثي على مصر، والذي أصبح لاحقًا عيد قوميًا لمحافظة كفر الشيخ، لكن المد القومي العروبي في هذه المرحلة فرض تاريخًا آخر.
ويمكن القول إن هذا التاريخ لم يكن خيارًا مصريًا خالصًا، فقد كانت البداية في سوريا، حيث تأسست القوات البحرية السورية في 29 أغسطس عام 1950 بشراء دمشق عدد من القطع البحرية من فرنسا، وتم اختيار ذلك اليوم لإحياء ذكرى معركة ذات الصواري البحرية باعتبارها أول نصر بحري في تاريخ العرب والمسلمين شاركت فيه بلاد الشام بطبيعة الحال.
وحين خرجت للوجود الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 بإعلان دولة الوحدة بين مصر وسوريا أصبح الاحتفال بذكرى عيد البحرية في 29 أغسطس عيدًا موحدًا في القاهرة ودمشق. ولم لا وقد رأت القيادات السياسية والعسكرية في ذلك الاختيار تاريخًا رمزيًا يؤكد جذور الوحدة بين البلدين منذ عهد الخلافة الإسلامية.
ومن يومها باتت القوات البحرية المصرية تحمل لقب "الأسطول العربي" بدلا من "الأسطول المصري"، واختفى اسم مصر لصالح الجمهورية العربية المتحدة لسنوات، وانعكس ذلك حتى على كلمات الأغاني والأناشيد.
ورغم انفصال سوريا عن مصر بوقوع انقلاب سبتمبر عام 1961، ظلّت مصر هي "الجمهورية العربية المتحدة"، وتمسّكت قواتها البحرية بتاريخ 29 أغسطس عيدًا سنويًا لها حتى وقعت هزيمة يونيو 1967.
أول أعياد البحرية بعد النكسة
ومن رحم اليأس ومرارة الهزيمة ولدت أسباب النصر وأنبتت بذوره، إيذانًا بموعد جديد لعيد قواتنا البحرية، عيد جديد صُنع على أرض مصر وبسواعد أبنائها.
بعد أقل من شهر واحد على هزيمة يونيو 1967، واصل العدو استفزاز القوات البحرية بدخول المياه الإقليمية المصرية بغرض استعراض القوة ومحاولة نصب أكمنة للوحدات البحرية المصرية المتوقع خروجها للمواجهة في عرض البحر.
وفي 11 يوليو 1967 اقتربت المدمرة "إيلات" واثنين من زوارق الطوربيد المسلحة من قاعدة بورسعيد البحرية في انتهاك جديد للمياه الإقليمية المصرية، وفي هذه المواجهة خسرت مصر زورقًا بقيادة النقيب ممدوح شمس، وزورقًا آخر بقيادة النقيب عوني عازر الذي حاول إنهاء هذه المواجهة غير المتكافئة بالاصطدام بالمدمرة إيلات لتفجيرها بعد انتزاعه "تيلات الأمن" الخاصة بقذائف الأعماق.
وفي 21 أكتوبر 1967 حاولت المدمرة إيلات تكرار الكمين نفسه داخل المياه الإقليمية المصرية، وحين رصدتها أجهزة رادار قاعدة بورسعيد البحرية، تم رفع درجة الاستعداد بعد إبلاغ مركز العمليات البحري بقيادة القوات البحرية في الإسكندرية، التي أبلغت بدورها القيادة العامة للقوات المسلحة، فرفعت الأمر إلى الرئيس جمال عبدالناصر لأن هذه المواجهة في هذا التوقيت بالذات ستترتب عليها تبعات سياسية وعسكرية خطيرة، وقد أمر الرئيس بقصف الهدف المعادي على الفور.
وعلى سبيل الخداع، أرسل مركز العمليات البحري بالإسكندرية رسالة إشارة لاسلكية مفتوحة إلى قيادة قاعدة بورسعيد البحرية نصها: "لا تشتبك مع أية أهداف في نطاق القاعدة". وعبر الهاتف، تم الاتصال بقائد القاعدة البحرية لإبلاغه بحقيقة الخطة الخداعية والتصديق على أمر استهداف المدمرة الإسرائيلية.
وما أن عاودت المدمرة استعراض قوتها أمام بورسعيد عصر يوم 21 أكتوبر صدرت الأوامر لسرب من لانشات الصواريخ المصرية مكون من لانش صواريخ بقيادة النقيب أحمد شاكر، إلى جانب لانش صواريخ بقيادة النقيب لطفي جاد الله.
وأصاب الصاروخ الأول أجهزة الاتصال وهوائيات اللاسلكي في المدمرة الإسرائيلية، مما حرمها من فرص الاستغاثة وطلب النجدة، ثم انطلق الصاروخ الثاني فأصاب غرف ماكينات المدمرة فأخذت طريقها إلى الغرق.
ولم تتمكن قوات العدو من إنقاذ ما تبقى من المدمرة وطاقمها إلا بعد اتصال رئيس أركان جيش الاحتلال بكبير مراقبي الأمم المتحدة ليرجوه سرعة التدخل لدى القيادة المصرية بغرض تسهيل عملية إنقاذ طاقم المدمرة الغارقة التي تصادف أن يكون عليها إلى جانب الطاقم المقاتل طلاب دفعة التخرج في الكلية البحرية الإسرائيلية لهذا العام.
وكانت عملية إغراق المدمرة إيلات باثنين فقط من لانشات الصواريخ المصرية صغيرة الحجم حدثًا مدويًا أذهل المؤسسات العسكرية حول العالم، إذ كانت هذه العملية الأولى من نوعها حول العالم باستخدام صواريخ "الطوربيد" في مواجهة وحدة بحرية بضخامة حجم وتسليح المدمرة الإسرائيلية إيلات "فخر الصناعة البريطانية العسكرية"!
أسطول مصر.. عاد لينتقم
ومن يتتبع التغطية الإعلامية لعملية إغراق المدمرة إيلات في الصحف والمجلات المصرية الصادرة في الأيام التالية للحادي والعشرين من أكتوبر 1967، يدرك أنها لم تكن مجرد معركة بحرية خاطفة، وإنما كانت بمثابة قارب نجاة أنقذ أبطال البحرية المصرية من الغرق في بحر اليأس وفقدان الثقة في النفس.
وبفضل التغطية الصحفية العالمية – وليست المحلية فحسب- أصبحت عملية إغراق المدمرة إيلات "شاهد إثبات" لجموع المصريين المتعطشين لأي بادرة أمل تخبرهم بأن الجيش المصري بكافة أسلحته صادق في سعيه إلى إعادة البناء استعدادًا لمعركة التحرير.
جاء 21 أكتوبر 1967 حاملًا معه دلالات رمزية عديدة، فها هم أبناء مصر يصنعون تاريخًا جديدًا لعيدهم السنوي، بعد أقل من شهرين فقط على "شعورهم بالحرج" من الاحتفال بعيد القوات البحرية في 29 أغسطس بعد النكسة. هذه المرة أصبح العيد مصريًا تمامًا، عيد مصري معاصر غير منتزع من متاحف التاريخ وكتب التراث الغامضة.
بعد 21 أكتوبر تبدلت المفاهيم العسكرية في القوات البحرية حول العالم، فلم تعد المسألة تقاس بحجم الوحدات البحرية وضخامة تسليحها، وبناء عليه تصاعدت أنشطة القوات البحرية المصرية اعتمادًا على هذا المفهوم الجديد الذي بلورته بتجربتها الشجاعة وصدّرته إلى العالم.
ونجد انعكاسًا لذلك في تعدد نجاحات البحرية المصرية في حرب الاستنزاف اعتمادًا بشكل أساسي على مهارة وشجاعة رجال الصاعقة البحرية أو الضفادع البشرية، خصوصًا في عمليات الاستهداف المتكررة لميناء إيلات الإسرائيلي، بداية من عملية 16 نوفمبر 1969 التي أطاحت بالسفينتين الإسرائيلين "هيدروما" و"داليا" في عقر دارهما.
ورغم تشديد الحراسة الإسرائيلية حول ميناء إيلات منعًا لاستهدافه مجددًا من قبل رجال الضفادع البشرية المصريين نجحت الصاعقة البحرية في اختراق الميناء في العملية الثانية في 5 فبراير 1970 واستهدفت السفينتين "بيت شيفع" و"بيت يام" في ميناء إيلات نفسه.
بالتأكيد بذلت إسرائيل كل جهودها لحراسة ميناء إيلات بعد هاتين العمليتين، لذلك كانت دهشة العالم حين فوجئ بنجاح الصاعقة البحرية المصرية في اختراق ميناء إيلات للمرة الثالثة في عملية 15 مايو 1970 وتدمير الرصيف الحربي للميناء الإسرائيلي!
"عنتر ولبلب" في ميناء إيلات
ألا تذكرك هذه العمليات الثلاث خلال أقل من 6 أشهر في ميناء واحد بقصة الفيلم الكوميدي المصري "عنتر ولبلب" بطولة محمود شكوكو وسراج منير؟
3 أقلام متتالية "على قفا" الجيش الإسرائيلي في قلب أهم موانئه العسكرية، والذي يحمل اسم "إيلات"، الاسم نفسه الذي حملته المدمرة "إيلات" قبل غرقها راكعة أمام قاعدة بورسعيد البحرية. هو الاسم الذي تكرر كثيرًا في سجل بطولات القوات البحرية المصرية حتى باتت الأجيال الجديدة التي شاهدت فيلم "الطريق إلى إيلات" مثلا تخلط بين أبطال هذه العمليات من كثرة تكرار اسم "إيلات" في العمليات الناجحة للبحرية المصرية.
كانت عملية إغراق "إيلات" في 21 أكتوبر فاتحة خير على أبطال البحرية المصرية، فنجحوا بعدها في عمليات عديدة منها إغراق الغواصة الإسرائيلية "داكار"، وتدمير الحفار الإسرائيلي في "ساحل العاج" قبل وصوله إلى سيناء لنهب بترولها.
وبفضل عملية 21 أكتوبر 1967 واستعادة الثقة في العمليات البحرية التالية، جاء 21 أكتوبر 1973 لتحتفل القوات البحرية مع المصريين جميعًا بالعيد السادس للقوات البحرية وهي تخوض حرب أكتوبر المجيدة، وتحمي قواتنا المسلحة عبر شواطئ مصر الشمالية، وتفرض سيطرتها على طول وعرض البحر الأحمر بإغلاقها مضيق "باب المندب" لحرمان إسرائيل من أي دعم بحري حتى تحقق لمصر النصر في أكتوبر 1973.
وبانتصارات قواتنا البحرية في حربي الاستنزاف وأكتوبر عادت مصر تغني من جديد مع محمد قنديل الذي هتف يومًا عبر أثير الإذاعة: "الحلم اتحقق وبقى له أسطول يتباهى برجاله، حيّوا الأسطول حيّوا رجاله، يوم رفعوا للنصر راياتنا، نصروا الوطن العربي بحاله".