رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية 3 أجيال في خدمة سيناء بين الحرب والسلام

اللواء محمد فصيح: عبرنا بالأمل والصبر قبل السلاح

جريدة الدستور
  • اللواء 15 مُدرع شارك في تحرير القنطرة وصد حملة "شارون" وحصار "الثغرة"
  • ذُقت مرارة التهجير طفلًا من الإسماعيلية في 1956 وعدت إليها ضابط مدرعات في 1969
  • صدمة النكسة غيّرت مساري التعليمي فالتحقت بالكلية الحربية بعد الحرب بـ4 أشهر
  • بالتدريب الشاق تمكّنا من تسليح الدبابة في 8 دقائق والخبراء الروس توقعوا 12 دقيقة

 

 

بتواضع النبلاء؛ يتحدث عن زملائه في حرب أكتوبر بأكثر مما يحكي عن نفسه. صنع الرجل بطولته قبل أكثر من نصف قرن، ومن يومها يصر على أنه ليس لديه ما يرويه. لكنه حين يتورّط في نسج خيوط الذاكرة؛ تجد في حكاياته عن سيناء كثيرًا من المفارقات الدرامية؛ ليست في تجربته الإنسانية والعسكرية فحسب؛ بل في مشوار والده ونجله كذلك.

هو اللواء أركان حرب محمد كامل فصيح موسى، أحد أبطال حرب أكتوبر المشاركين في تحرير مدينة القنطرة شرق. وتبدأ قصته مع سيناء قبل نصر أكتوبر بنحو 20 عامًا، حين عبر إليها لأول مرة طفلًا في حضن والده الضابط بالقوات المسلحة في سنوات الاحتلال البريطاني، قبل أن يعبر إليها هو نفسه بطلًا من أبطال سلاح المدرعات في حرب أكتوبر. وبعدها بربع قرن من الزمان، يشارك نجله في حماية حدود سيناء ذاتها.

 

قبل جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس في 18 يونيو 1956، كان والد اللواء محمد فصيح ضابطًا بسلاح المركبات بالقوات المسلحة وينتقل بأسرته من محافظة الشرقية إلى مقر عمله في مدينة العريش بشمال سيناء.

يقول اللواء فصيح إن ذكرياته عن هذه المرحلة باهتة نسبيًا، لأنه كان لا يزال طفلًا التحق حديثًا بمدرسة العريش الابتدائية، "لكنني أذكر جيدًا كيف كان الضباط الإنجليز يفتشون القطارات العابرة إلى سيناء، ويدققون في بطاقات والدي ووالدتي كأنها جوازات سفر لمسافرين خارج الحدود، وليست بطاقات هوية لمواطنين مصريين من حقهم التنقل داخل حدود وطنهم المحتل. شعرت يومها وكأن سيناء بلد آخر تفصله عن مصر مياه القناة وبنادق الإنجليز".

"سنرجع يومًا"

 

انتقل والد محمد فصيح إلى مقر عمل جديد في الفرقة الرابعة المُدرعة بمنطقة فايد بالإسماعيلية، وانتقل معه الابن محمد فصيح طالبًا في الصف الثاني بمدرسة المطار الأبيض الابتدائية. 

"فرحت بجلاء الإنجليز عن سيناء ومصر كلها، وعرفت أن قناة السويس صارت مصرية أخيرًا. لكن العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956 أجبرني على التهجير مع والدتي وأشقائي الصغار إلى الزقازيق ثم ههيا ومنها إلى قرية النعامنة في محافظة الشرقية".

وبعد الحرب، انتقل والده للعمل في مركز تدريب المركبات بالعباسية، ثم مركز تدريب مهني المدرعات في المنطقة العسكرية المركزية "الهايكستب". وخلال هذه السنوات، كبر محمد فصيح، والتحق بمدرسة مصر الجديدة الثانوية، وكان مُقررًا انعقاد امتحانات الثانوية العامة يوم 10 يونيو 1967، لكن اندلاع الحرب كان سببًا في تأجيل الامتحانات لأسبوعين.

وقبل ظهور نتيجة الثانوية العامة، كان الطالب محمد فصيح قد اتخذ قرارًا مفاجئًا سيغير مسار حياته. اختار الالتحاق بالكلية الحربية في هذه الظروف الغامضة عسكريًا والمرتبكة سياسيًا.

سألته عن ميوله للحياة العسكرية تأثرًا بوالده، فقال إن "الالتحاق بالمنظومة العسكرية المصرية شرف ومصدر فخر في كل زمان، لكنني لم أفكر قبل الحرب إلا في المسار المعتاد للدراسة الجامعية، رغم أنني كنت في مدرسة ثانوية عسكرية، وأشارك في مُعسكرات الفتوّة الطلابية. لكن وقع الهزيمة على نفوسنا كان أصعب من وصفِه. نحن أبناء ثورة يوليو، وتربينا على العِزة والكرامة والفخر بالوطن، وفجأة جاء زلزال يونيو 1967 ليترك أثره في نفوس الجميع".

وبشيء من الثقة والحسم، قال اللواء محمد فصيح إن نصف دفعته في الكلية الحربية كانوا طلابًا رشّحهم مكتب التنسيق بالفعل إلى كليات جامعية مدنية، لكنهم اختاروا الانضمام إلى الجيش أملًا في النصر الذي بشّر به الرئيس جمال عبدالناصر.

 

ضحايا النكسة يصنعون النصر

 

في أكتوبر 1967 كانت مصر تُغيّر جلدها، ومانشيتات الصحف تتحدث عن تحقيقات النائب العام في انتحار المشير عبد الحكيم عامر، ومحاكمة صلاح نصر في قضية انحراف المخابرات العامة، وكذلك محاكمة قادة الطيران بوصفهم مسؤولين عن الهزيمة. ثم جاء يوم 21 أكتوبر 1967 ليطبع قُبلة الأمل على جباه المصريين جميعًا مع نجاح ضباط القوات البحرية في تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات أمام شواطئ بورسعيد.

وفي هذه الأجواء، وفي هذا الشهر نفسه، بدأ محمد كامل فصيح مشواره العسكري طالبًا في الكلية الحربية مع زملاء دفعته الذين دخلوا الجيش في عام الهزيمة ليصنعوا النصر، بدلا من انتظاره.

نعرف من اللواء فصيح أنه تخرّج ضابطًا في سلاح المدرعات "الدُفعة 55 حربية" في يوليو 1969، والتحق باللواء 15 مُدرّع مُستقل في منطقة أبو صوير بالإسماعيلية. ونعرف من الأرشيف الصحفي أن جبهة قناة السويس في الشهر نفسه كانت مشتعلة بعد نجاح واحدة من أكبر عمليات عبور المجموعة 39 قتال بقيادة إبراهيم الرفاعي، ومنظمة سيناء تدمر أول مستعمرة تبنيها إسرائيل في الأرض المصرية المحتلة.

التدريب سلاح إضافي

 

طالت شهور التدريب، وانحصرت أيام الإجازات في 4 أيام شهريًا، منها يومان للسفر ذهابًا وعودة. وفي هذه المرحلة، كان الملازم محمد فصيح ووالده ضُباطًا في خدمة قواتنا المسلحة في الوقت نفسه، ونادرًا ما تتزامن إجازات كل منهما.

ولم يغفل اللواء فصيح الإشارة إلى مُعاناة زملائه "الصعايدة" الذين كان غيابهم عن الأهل يصل إلى أكثر من 45 يومًا بغرض ضم الإجازات حتى لا تُهدر في السفر الطويل. 

"كان الطعام المتاح لنا في الجبهة وجبة لحوم لمرة واحدة أسبوعيًا، والباقي فول وعدس والذي منه. الشعب كان يعاني، والجيش من الشعب، وكل الأولوية للمجهود الحربي، على أمل استعجال معركة التحرير".

وبكل الفخر والامتنان، يتحدث اللواء محمد فصيح عن أثر التدريب الشاق على كفاءة الضباط والجنود في هذه المرحلة، "كان الخبراء الروس يقدّرون الوقت اللازم لتشوين وتسليح الدبابة بـ43 طلقة متنوعة في حدود 12 دقيقة، فنجحت مع زملائي في إنجاز المهمة في 8 دقائق فقط، على الرغم من ضيق الوقت المتاح للتدريب عند أول وآخر ضوء، لتجنب أعمال الاستطلاع المعادية".

 

الجبهة الداخلية تبلع الطُعم

 

ثم مات عبدالناصر، ولم يُدفَن الأمل معه. وعلِم الملازم محمد فصيح بنبأ وفاة الرئيس عبر راديو "ترانزيستور" في أبو صوير، وصدرت الأوامر بانتقاله مع زملائه إلى حدود القاهرة لحماية العاصمة أثناء جنازة الرئيس الراحل. وبعد عدة أشهر، عاد اللواء المُدرع إلى الصالحية الجديدة، في منطقة أقرب إلى قناة السويس مقارنة بموقع أبو صوير السابق.

وتواصلت أعمال التدريب، وصارت أكثر تنوعًا وجديّة كلما اقتربت القوات من خط المواجهة على الجبهة. وكان اللواء 15 مدرع يشارك في التدريب على العبور في منطقة الخطاطبة بالمنوفية، في موقع أعِد خصيصًا ليحاكي ظروف قناة السويس والساتر الترابي في سيناء. 

وأثناء مشاركته في مشروع تدريبي للمدرعات، يذكر "فصيح" أن الرئيس الليبي معمّر القذافي تفقد مدى جاهزية قواتنا المسلحة لحرب التحرير برفقة الفريق محمد صادق وزير الحربية، وقد صافحه وأثنى على كفاءة زملائه.

"كان غموض القرار السياسي في 1971 و1972 ثقيلًا على نفوسنا، لكننا لم نشك أبدًا في جدية القيادتين السياسية والعسكرية تجاه حرب التحرير المنتظرة". هكذا رد اللواء فصيح على سؤال بخصوص مدى تأثر ضباط الجيش بالتشكيك الذي بلغ حد السخرية من الرئيس السادات فيما يتعلق بمسألة "عام الحسم" و"عام الضباب" وتأخر قرار الحرب. 

"كنا على الجبهة ونلمس بأنفسنا تطور مستوى التدريب القتالي وجِديته، أمّا في الجبهة الداخلية فربما يكون الناس أكثر تأثرًا بالدعاية المضادة والحرب النفسية، خصوصًا الشباب المُتحمس والمتعجّل بطبعه".

في ربيع وخريف عام 1972 أجرت قواتنا المسلحة مشروعًا تعبويًا ضخمًا أقلق العدو واضطره إلى إعلان التعبئة العامة مرتين في عام واحد، وهو أمر مكلف ومُعطل للاقتصاد الإسرائيلي. وعن ذلك قال اللواء محمد فصيح: "في الوقت الذي كان البعض يسخر من الرئيس السادات ويشكك في قرار الحرب، لم ينتبه أحد إلى أن خطة الخداع الاستراتيجي كانت قد بدأت على الجبهة مُبكرًا، لدرجة أن الجبهة الداخلية بلعت الطُعم هي الأخرى".

وكانت القوات تتحرك من مواقع إلى أخرى على سبيل التمويه، لإرباك وإفساد المعلومات الاستطلاعية للعدو على الجبهة. وفي المشروع التعبوي الأخير في ربيع 1973، شعر اللواء فصيح وزملاؤه بأن المعركة تقترب، لكن متى بالتحديد، لا أحد يعلم.

 

إنها الحرب لا ريب

 

وفي الرابع من أكتوبر 1973 صدرت الأوامر للواء 15 مُدرع مستقل، المعروف باللواء الضارب، بالتحرك لدعم الفرقة 18 مشاة ميكانيكي بقيادة فؤاد عزيز غالي، على بُعد 4 كيلومترات فقط من قناة السويس، وهي "مسافة لم يسبق أن اقتربت منها مدرعاتنا من قبل"، فأيقن النقيب محمد فصيح بأنها الحرب لا ريب.

وفي صباح السادس من أكتوبر كان النقيب محمد فصيح قائدًا لسرية دبابات في الكتيبة 245 ضمن تشكيلات اللواء 15 مدرع مستقل بقيادة العقيد تحسين شنن، أو "تيتو" كما كانوا يطلقون عليه في جهاز "اللاسلكي". 

ولا يزال "فصيح" يذكر بالأسماء طاقم دبابته والكثير من زملائه في اللواء، "السائق شمس والرامي علي حسن والمُعمِر محمد حسن وغيرهم كانوا أكبر مني سنًا وبدأ تجنيدهم قبل النكسة بسنوات، وعشت معهم سنوات انتظار المعركة بأمل وقلق لا يفرّق بين قائد ومُجند".

ونظرًا لطبيعة السلاح، تأخّر عبور النقيب محمد فصيح بدباباته العشر لحين فتح ثغرات في الساتر الترابي على قناة السويس. و"مع أذان مغرب العاشر من رمضان، كانت أول سيجارة أدخنها في حياتي على الجبهة، لأشارك زملائي فرحة العبور على طريقتهم".

وفي العاشرة مساء، كانت دبابة النقيب فصيح أولى دبابات السرية في العبور على معديّات مُجهزة، قبل إنشاء كباري العبور الثقيلة. و"بمجرد وصول الدبابة إلى الضفة الشرقية للقناة سجدت لله شكرا على تراب سيناء، وفوجئت بسيارة جيب قادمة من خلف الساتر الترابي، نزل منها نقيب صاعقة يخبرني بأنهم أسروا 3 ضباط إسرائيليين كانوا مختبئين في مسجد القنطرة شرق، ويطلب مني السماح له بنقلهم إلى الضفة الغربية للقناة على نفس المعدية التي نقلت دبابتي، فأذنت له فورًا. ورأيت الأسرى وقد أكلوا علقة حرامية على يد أبطال الموجات الأولى للعبور".

في زمن الاحتلال البريطاني لقناة السويس عبر الطفل محمد فصيح بصحبة والده إلى سيناء بإذن إنجليزي مُحتل، وفي 1969 تخرّج محمد فصيح ضابطًا ليقف على شاطئ القناة في انتظار فرصة العبور لمواجهة الإسرائيلي الغاصِب، وفي 6 أكتوبر 1973 عبر النقيب محمد فصيح قناة السويس بالقوة المدرعة أخيرًا، دون إذن من غاصبٍ أو مُحتل.

وفي حرب أكتوبر كانت دبابة قائد السرية تعبر أولًا، ثم يطمئن بنفسه على عبور باقي دبابات سريته، "كان ذلك أول درس مُستفاد من النكسة، فقد تعلمنا في الكلية الحربية أن القائد لا بد أن يكون قدوة للمجندين تحت قيادته، وأن لا فرق بينهما في مواجهة قذائف العدو".

 

تحرير مدينة القنطرة شرق

 

شاركت سرية النقيب فصيح مع باقي سرايا وكتائب اللواء 15 مدرع مدينة القنطرة شرق من الجنوب، لحماية قوات الصاعقة داخل المدينة أثناء تحريرها. وصدّ اللواء المدرع العشرات من الهجمات المضادة للعدو بدءًا من فجر السابع من أكتوبر وحتى مرحلة تطوير الهجوم داخل سيناء. وفي هذه المرحلة، يفخر "فصيح" ببطولة أحد زملاء دفعته في الكلية الحربية، هو العميد يسري عمارة الذي شارك في أسر القائد الإسرائيلي عسّاف ياجوري. 

وبعد وقوع أحداث ثغرة الدفرسوار، انتقلت سرية النقيب محمد فصيح جنوبًا للمشاركة في إفشال محاولات "شارون" لاحتلال الإسماعيلية، ثم الانتقال مجددا إلى منطقة "نفيشة" بالإسماعيلية للمشاركة في حصار منطقة الثغرة لحين وقف إطلاق النار وإعلان فصل القوات مطلع عام 1974.

انتهت حرب أكتوبر بنصر عسكري خالد، ليبدأ عمل السياسة والدبلوماسية. وانتقل اللواء محمد فصيح إلى مسار آخر في خدمة قواتنا المسلحة، ليعمل مدرسًا في الكلية الحربية التي تخرّج فيها قبل نحو 5 سنوات. وحتى العام 1979، شارك "فصيح" في تخريج 10 دفعات بالكلية الحربية، بدءًا من الدفعة 65 وحتى الدفعة 75 حربية.

وانتقل "فصيح" إلى سيدي برّاني في المنطقة الغربية رئيسًا لعمليات إحدى كتائب المدرعات، ثم قائدًا لكتيبة مدرعات في السلوم. وفي 1985 أصبح أركان حرب مركز تدريب مهني المدرعات في المنطقة المركزية، وهو نفسه المركز الذي عمل فيه والده لسنوات طويلة حتى خروجه على المعاش عام 1977.

وفي 1988 تولّى اللواء محمد فصيح رئاسة فرع التدريب القتالي بالجيش الثالث الميداني بالسويس، وفي 1992 ترأس فرع التعليم بمركز سائقي الجنزير، ثم قائدًا للمركز، ثم مساعدًا لمدير معهد المدرعات حتى بلوغه سن المعاش عام 1998.

 

رحلة امتدت لنحو 31 عامًا قضاها اللواء محمد كامل فصيح في خدمة قوتنا المسلحة، يسبقها رحلة والده المقدم فصيح موسى الذي عاصر وشارك في حرب فلسطين عام 1948، وحرب العدوان الثلاثي عام 1956، وحرب اليمن عام 1962، وحرب يونيو 1967، ثم حرب أكتوبر 1973. وقد عمل المُقدّم فصيح موسى لسنوات في أحد مراكز التدريب بمنطقة "الهايكستب"، ومنحه القدر سعادة رؤية ابنه الأكبر محمد فصيح يشارك أيضًا في تدريب الضباط الجدد في "مدرسة المعركة" بالجيش الثاني قبل وبعد حرب أكتوبر.

كان المقدم فصيح موسى أول رجل عسكري في عائلته، ولم يكن نجله اللواء محمد فصيح الوحيد الذي تأثر بتفاني الرجل وإخلاصه لشرف العسكرية المصرية، فقد تحمّس نجله الثاني ماهر فصيح إلى الالتحاق بالكلية الحربية أثناء تجنيده بالدفاع الجوي بعد حرب أكتوبر.

 

أجيال تُسلم أجيالًا

 

وبعد نحو ربع قرن على حرب أكتوبر وعبور اللواء محمد فصيح مع من عبروا إلى سيناء، التحق نجله العميد وائل محمد فصيح بكلية الشرطة عام 1996، وعند تخرجه، كان من نصيبه أن يلتحق بقوات الشرطة المُكلفة بالعمل في سيناء، وتحديدًا في المنطقة الحدودية "ج"، ليقضي 4 سنوات من عمره في حراسة الأرض التي شارك جده ووالده في تحريرها، في دراما واقعية صنعتها الأيام كنموذج رمزي لبطولة العائلة المصرية، وشاهد على انتماء جيل عظيم لوطن أعظم.

وهي مفارقة يمكن إسقاطها على كل بيت في مصر، شاركت أجياله في تأكيد مصرية سيناء بشكل أو بآخر، وردد أبناؤه في الجيش نشيد "وصُنّاك يا مصر طول الزمن، ليبقى شبابك جيلا فجيلا".

اليأس أصعب من المعاناة

 

"كانت ظروف البلد صعبة، لكن الاستسلام لليأس كان أصعب". هذه شهادة يربط بها اللواء محمد فصيح بين زمان والآن، "كان راتبي في حرب الاستنزاف حوالي 26 جنيهًا، أدفع منها 5 جنيهات لتحسين الطعام على الجبهة، وأشارك بالباقي في مصاريف الأسرة. ولم يكن مسموحًا بالتفكير في الارتباط وبدء حياة أسرية في ظل حرب مُنتظرة. كنت منعزلًا عن الحياة المدنية وسُبل الترفيه لضيق الوقت المتاح في الإجازات. لكن أي مُعاناة لم تكن لتقارن بمُعاناة المُهجّرين من مدن القناة، الذين قضوا 6 سنوات من أعمارهم يقيمون في مدارس أو مساكن مؤقتة، ويعملون في وظائف مؤقتة لاستصلاح الأراضي بمديرية التحرير أو غيرها. ورغم ذلك كان الصبر والأمل والعمل رفاقنا في كل صباح. وليس في ذلك إفراط في المثالية، وإنما لم يكن هناك حل آخر، وهذا ما أثبتته الأيام لاحقًا، ألم يتحقق المستحيل وعبرنا وانتصرنا بأقل الإمكانيات"؟

في أواخر التسعينيات، زار اللواء محمد فصيح المواقع التي استشهد فيها زملاؤه في اللواء 15 مُدرّع، ومرِض لعدة أيام حين شاهد دبابات زملائه الشهداء على حالها منذ استهدفها العدو في تطوير الهجوم منتصف أكتوبر 1973. "لكنني اليوم أرى سيناء جديدة، بفضل مشروعات الأنفاق العملاقة تحت قناة السويس للربط بين سيناء وكل أرض مصر، إلى جانب التوسع في استصلاح الأراضي بفضل تطوير ترعة السلام ومحطة مُعالجة مياه بحر البقر الأكبر في العالم، من أجل هذا وأكثر حاربنا في أكتوبر 1973، وحارب آباؤنا وأجدادنا في كل زمان".