حواديت بهية
(1)
هاميس وبتاع الجاز
كان هناك باستمرار سر خفى بينى وبين الحكايات يحرك شغفى بصورة أكبر من أقرانى للوصول إلى نهاية أى حدوتة يتصادف وتلتقط أذناى أحداثها، بداية من تلك الحواديت التى كانت تقصها علىّ أمى من داخل كتبها الملونة الزاهية، مرورًا بحواديت جدى الذى كان يجمعنا من حوله ليسرد لنا حكايات شواهى أم الدواهى والشاطر حسن وأمنا الغولة؛ فيسرقنا النعاس دائمًا قبل النهاية، ثم حواديت أبى المختزلة فى جمل قصيرة متتابعة عرفت فيما بعد أنهم يسمونها أبيات شعر؛ كان يهواه بكل صُنوفه وعَروضه وبحوره وينظمه فى استمتاع كإرث منحته له الجينات الوراثية عن جدى عزالدين، ثم حواديت المغامرين الخمسة والشياطين الـ13 التى تعلمنا أن اسمها مغامرات، وصولًا لحكايات أدهم صبرى وعالمه السرى المثير وحكايات نور ومشيرة الآتية من مستقبل خلاب؛ يتبارى مع أساطير د. رفعت إسماعيل ليشكلوا وجدان أجيال ما زالت تدين لهم بالفضل والولاء.
ويومًا تلو الآخر أخذ ذلك الشغف فى التزايد حتى تحولت دون أن أشعر لواحدة من رواة الحواديت، لأكتشف مع كتابتى لهذه السطور أننى طوال سبعة عشر عامًا أو يزيد انطلقت لأحكى وأحكى دون توقف، حكيت عن الحب الواصل بين قلوبنا، وبيننا وبين الله، وبيننا وبين الوطن، حكيت عن نفوس البشر الرحيمة والقاسية والكئيبة والوحيدة والفرحة والمبتهجة والآملة فى وجه الكريم، أخذتنى الحكايات حتى أصبحت فى النهاية درويشة تفترش الطريق أسفل مشربية بهية ست الحلوات؛لتروى عنها ما تيسر مما عاشته منذ آلاف السنين بأعلى درجات الشغف الذى لا ينقطع!
وشغفى بحكايا بهية سبق حتى إدراكى لقدرتى على الحكى من الأساس، لذلك وجدتنى وأنا دون العشرين أتعلق بسطور كتاب «مصر القديمة» للدكتور عيد مرعى؛ والذى كان ضمن المقررات التى درستها شقيقتى فى كلية التربية قسم الفلسفة والاجتماع، كان الكتاب ملخصًا لأبرز سمات الأسر الحاكمة فى مصر القديمة؛ والذى أشعل فى ذهنى وقتها ذكرياتى مع كل ما عرفته عن تاريخنا المصرى القديم سواء من خلال الدراسة أو من خلال القصص والأفلام والمسلسلات، تذكرت حينها حدوتة هاميس والمهندس بتاع الجاز التى جعلت من فيلم «عروس النيل» ملهاة مفضلة لى فى طفولتى.
فى تلك الفترة لم يكن قلمى قد خطّ أكثر من بضع قصص قصيرة ضمن نشاط الأسر الطلابية أو للمشاركة فى بعض المسابقات الأدبية، وقد دفعنى هذا لأبدأ فى مطالعة كتب مختلفة قليلًا عن مغامرات الجيب التى أعدت عليها، لا أذكر على وجه الدقة كيف عثرت على كتاب «الخروج من التابوت» للدكتور مصطفى محمود؛ لكنى أذكر جيدًا أننى وجدت بين سطوره استعراضًا وافيًا لقصة التاسوع الإلهى عند القدماء وكيفية احتفالهم بها مع احتفالهم بعروس النيل فى أعياد الفيضان، حيث صورت قصة التاسوع كيف أن المصرى القديم لم يكن مجرد إنسان عادى كسائر الأجناس؛ بل كانت دائمًا المعرفة جزءًا من جيناته قبل أن يُخلق، ولهذا كنا من أوائل الحضارات- إن لم نكن أولها- التى امتلكت تصورًا لبدء الخلق، حيث تصور القدماء أن الكون كان فضاء أزليًا بلا حياة أو حركة ثم قام «رع» إله الشمس بخلق نفسه بنفسه، ثم خلق «شو» إله الهواء و«تفنوت» ربة الندى والرطوبة من فمه وأنفاسه؛ ليتزوجا بعدها وينجبا «نوت» ربة السماء و«جب» إله الأرض، اللذين أنجبا من زواجهما الآلهة الأربعة لمملكة الموتى «إيزيس» و«أوزوريس» و«ست» و«نفتيس» ليتكون بذلك التاسوع الإلهى الذى يحكم الكون، لكن «ست» غدر بأخيه «أوزير» طمعًا فى سلطانه وزوجته «إيزيس»؛ وقتله ومزق جثته إلى أربع وعشرين قطعة وفرقها بطول القطر المصرى وعرضه، بعدها انطلقت «إيزيس» المحبة لتجمع أشلاء زوجها وتدب فيه الروح من جديد لتحمل منه ابنها الإلهى «حورس» ويموت مرة أخرى، فيكبر «حورس» وهو يحمل على عاتقه ثأر أبيه، ويظل الصراع بينه وبين عمه «ست»- الخير والشر- دائرًا طوال الحياة!
كل عام فى احتفالات الفيضان كان كهنة معبد «آمون» يقومون بتمثيل تلك الأسطورة وهم يرتدون ملابس ناصعة ويفرقون على الرعية فطائر العيد المقدسة التى باركها كبير كهنة المعبد، فنرى كيف كان المصرى القديم يمتلك منطقًا جعله يتأمل فى الكون من حوله حتى وصل لكيفية وجوده من الأساس، وأخذ يسعى للحفاظ على بقائه هذا وجعل حياته أكثر استقرارًا وأمنًا، لذلك كان يقدس كل شىء يساعده على ذلك؛ وعلى رأسها بالطبع نهر النيل الذى يشق قلب مصر ليغذيها بالحياة على مدار مئات القرون!
شعرت مع كل تلك المعطيات المتسارعة التى غزت عقلى وقتها حول تاريخنا القديم؛ أنها إشارة للمضى قدمًا نحو هذا العالم أو على وجه الدقة نحو حقيقة «حابى» إله النيل عند القدماء، فقد تأكدت من كم الافتراءات التى نالت من قدسيته لدى المصريين؛ حيث إنه لم يستقبل أبدًا عروسًا آدمية ولم تكن «هاميس»- أو غيرها- آخر عروس للنيل كما شاهدنا فى الفيلم، بل لم تخسر أى فتاة حياتها على الإطلاق فى الاحتفال بفيضانه، ورغمًا عنى وجدتنى أتوقف أمام المشهد الذى ألقت فيه «هاميس» بنفسها فى عمق النهر برضا تام، وحاولت مَنطَقة السبب الذى يدفع فتاة فى ريعان صباها للاستسلام لهذا المصير، فلم أجد سوى سبب واحد يجبرها على هذا وهو قناعتها التامة بأنها بهذا ترضى الإله، فماذا لو كانت من غير المؤمنين بتلك العقيدة؛ هل كانت ستقدم على التضحية بحياتها؟ بالطبع لا!
ووجدتنى لأول مرة أتخيل حكاية أخرى غير حكاية «هاميس وبتاع الجاز» استغل من خلالها تلك الافتراءات المنتشرة حول «حابى» وعروسه كمحور للأحداث؛ مع الإيضاح أنها مجرد لعبة درامية ليست حقيقية، وقد ساعدنى فى تغذية الفكرة ما قرأته عن سمات الأسرة الحادية عشرة فى تاريخنا القديم، حيث اتسمت تلك الفترة بتوحش نفوذ كهنة معبد «آمون» ليطغى على نفوذ الحكام أنفسهم، ويمكنهم بمنتهى اليسر من السيطرة على مقدرات الدولة بأكملها، حتى إنه ذكر فى بعض الكتب كيف كان كاهن أى بلدة باستطاعته أن يجبر من يشاء من نساء البلدة على خدمة المعبد؛ وهو بالطبع مجرد ستار لكى يتخذ منهن محظيات كيفما يشاء، أيضًا كان بعضهم يجبر الفلاحين على العمل بالأراضى المملوكة لهم دون مقابل؛ بحجة أنهم بهذا يطيعون أوامر ممثل الرب!
وبدأ نسيج حكاية «مانى» فى احتلال عقلى، تلك الفتاة التى يرفض عقلها الإيمان بعقيدة «آمون- رع» والتاسوع الإلهى؛ والتى تتعرض لقهر أحد الكهنة الفاسدين حيث كان يساومها على الرضوخ لأغراضه منها أو أن يأمر بأن تكون هى عروس «حابى» فى هذا العام، وأخذت أدون الحكاية بالطريقة الأقرب لعقلى وقتها كمسرحية ربما أتمكن من تقديمها من خلال مسرح المنوعات الذى تشارك فيه أسرتنا بالكلية كل عام، لكنى انتهيت منها بعد تخرجى لتظل حبيسة الأدراج منذ عام 2002 حتى فترة حكم الإخوان فى عام 2013، ومع تصاعد الغضب فى الشارع المصرى وقتها؛ تحولت حكاية «مانى» من مسرحية «حابى» التى كانت تدور حول معنى الإيمان وأثره على نفوس البشر؛ إلى رواية «عهر مقدس» التى حكت لنا عن هروب أسرة «مانى» من طغيان كاهن البلدة خوفًا على مصير ابنتهم؛ ثم عدولهم عن هذا القرار حين شعروا بقدرتهم- هم وباقى أهالى البلدة- على الخلاص منه، فعادوا لبلدتهم بالفعل ليواجهوه، الطريف فى الأمر أن رواية «عهر مقدس» صدرت بالمكتبات يوم 28 يونيو 2013!
و...............
إلى اللقاء فى الحلقة القادمة مع حدوتة جديدة من
حواديت بهيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة.