ماذا يحدث فى إيران بعد اغتيال نصرالله؟
المفارقة الأهم فى اغتيال إسرائيل لحسن نصرالله، أمين حزب الله، أنه فى الوقت الذى اتخذ فيه «نتنياهو» قرار تنفيذ عملية قصف مركز قيادة حزب الله فى بيروت، كان على بعد خطوات منه الرئيس الإيرانى «مسعود بزشكيان»، فكلاهما يحضر اجتماع «جمعية الأمم المتحدة»، وألقى كل منهما خطابًا يدعو فيه المجتمع الدولى للقضاء على الآخر، باستعراض مظلومية مدعاة، يحاولان من خلالها تكريس صورة دعائية لا تعكس واقع الرجلين، وما يمثلانه من أنظمة متصارعة داخليًا وخارجيًا.
الغريب فى الأمر أن الرئيس الإيرانى، الذى انتقد السياسة الغربية مرارًا كان يجلس على مائدة مفاوضات ضمت مملثى الكتلة الغربية، فى محاولة لتحسين صورة النظام فى إيران، لإعادة فتح مفاوضات الملف النووى المغلقة، والدخول فى صفقات رفع العقوبات، التى أثقلت كاهل الدولة الإيرانية وتعرضها لخطر اجتماعى حقيقى، حتى وإن اضطر إلى تقديم جملة من التضحيات أو القرابين.
حزب الله هو الطفل المدلل للنظام الإيرانى، أصحاب الحظوة والولاء الكامل، له مكانة عُليا مختلفة عن كل أقرانه من ميليشيات محور المقاومة، فإيران هى الراعى الرسمى والوحيد للحزب. فمنذ تأسيسه فى ثمانينيات القرن المنقضى، برعاية إيرانية، فى قمة مجد الثورة الإسلامية، وهيمنة الجماعات الدينية على مختلف أوجه الحياة السياسية فى المنطقة. وجماعة حزب الله لا تنفصل عضويًا عن نظام الخمينى، الذى استخدم الحزب فى مختلف الأغراض السياسية، خاصة كذراعه الأقوى فى مواجهة إسرائيل.
وقد شكل مقتل حسن نصرالله، والعديد من قيادات الفاعلة داخل الحزب، نقطة مفصلية فى السياسة الإيرانية خارجيًا وداخليًا، خاصة مع تطور الوضع ومحاولة نظام «نتنياهو» توسيع دائرة الصراع إلى العمق اللبنانى، بعد الدموية التى تمت فى غزة. فالنظام الإيرانى الآن بين مطرقة الأزمة الاقتصادية فى الداخل، وسندان موقفها السياسى أمام ميليشيات من أسمتهم محور المقاومة. فالصورة الذهنية التى حاولت إيران رسمها شعبيًا أو إقليميًا أصبحت معرضة لخطر حقيقى، فهل إيران فضلت ملفاتها الداخلية ومصالحها العليا والذاتية، عن دعمها المعلن للجماعات العسكرية الموالية لها؟ أم أنها دولة أصيبت بالشيخوخة السياسية والعسكرية، وأصبحت أكثر عجزًا واختراقًا أمام عنهجية صهيونية، اغتالت «إسماعيل هنية» رئيس المكتب السياسى لحماس فى عمق طهران، والعديد من قيادات الحرس الثورى الإيرانى فى دمشق، وصولًا إلى نصرالله فى لبنان؟
كيف استفادت إيران من مأساة غزة ولبنان؟
منذ اندلاع طوفان الأقصى وإلى الآن، تحول بنك أهداف إيران إلى محاولة دءوبة لاستغلال القضية الفلسطينية ومأساة غزة، لتحقيق أكبر المكاسب الممكنة إقليميًا ودوليًا، خاصة مع سماح النظام بوصول رئيس يتسم بالاعتدال إلى سدة الحكم. سنحاول إجمالها فى التالى:
إقليميًا: استطاعت إيران إقليميًا أن تُقدم نفسها بوصفها الداعم للمقاومة ضد إسرائيل، ما انعكس على شرعية محور المقاومة سواء شعبيًا أو رسميًا فى لبنان وفلسطين واليمن والعراق، وتمكنت من خلق تناغم بين فصائل المقاومة لم يكن ليحدث لولا فكرة توحيد الساحات التى أسستها طهران اعتمادًا على أزمة غزة. ورغم ما تكبدته من خسائر مادية أو عسكرية، لكنها قدمت نفسها بوصفها اللاعب الوحيد فى المنطقة، وكأنها تخاطب الدول الراعية للكيان الصهيونى، حتى تفرض وجهة نظرها فى ظل مفاوضات قادمة فى القريب.
داخليًا: حاول النظام أن يؤجل كل الأزمات الداخلية إلى أجل غير مسمى، تحت ستار المقاومة لعدو متربص، يتسبب هو ومن معه من دول متحالفة فى العديد من الإشكاليات الاقتصادية والسياسية فى الداخل، خاصة مع الإلحاح على عقدة المظلومية، التى تشكل العقيدة الأصلية للشخصية الإيرانية. فعوّل الفشل الاجتماعى والاقتصادى على مساحات الاضطهاد الغربى الذى تعرضت له الدولة.
خارجيًا: حققت إيران العديد من التفاهمات القوية مع المحور الشرقى، على رأسه روسيا والصين، فى محاولة لضمان مصالحهما الاقتصادية والتجارية على بحر العرب على سبيل المثال، بواسطة الحوثيين فى اليمن. وكذلك الإضرار بالمصالح الغربية خاصة الولايات المتحدة، فى مساحات نفوذها القوى داخل الخليج العربى، لتشكيل ضغوط نسبية على الكتلة الغربية، ما يسمح بفرض سياق قوى على ملف رفع العقوبات، خاصة أن إيران تحاول تقديم خطاب سياسى أكثر هدوءًا عن طريق رئيس الجمهورية «بزشكيان»، الذى أعرب عن رغبة إيران فى تغير نهج سياستها تجاه الغرب بشكل كام.
فبعد عام من مأساة غزة، وبداية مأساة جديدة فى لبنان، ومحاولات إيران الدائمة إلى إشعال المنطقة أمام التصعيد الدموى الإسرائيلى، ورغم ما خسره النظام بسبب اغتيال أهم قيادات محور المقاومة، والعديد من قيادات الحرس الثوري، لكن تظل النظرة الأبعد للمكاسب هى الهدف لأغلب تحركات طهران.
إيران ومأزق إعادة هيكلة حزب الله
هل يشكل اغتيال نصرالله مأزقًا حقيقيًا للنظام فى إيران؟، قد تأتى الإجابة عن هذا التساؤل صادمة للبعض. تشير العديد من التقارير الخارجية والداخلية أحيانًا، إلى أن أداء حسن نصرالله خلال الفترة الأخيرة لم يكن على المستوى المرجو منه داخل أروقة النظام الإيرانى. فرغم ما أبداه الرجل من ولاء لا شك فيه للدولة الإيرانية، إلا أنه كان يحاول دائمًا صنع حالة من التوازن السياسى بين تحقيق أهداف إيران، وبقاء حزب الله وما حققه من مكاسب سياسية قوية داخل لبنان، سواء على المستوى الرسمى أو تكوين حاضنة شعبية قوية فى الواقع اللبنانى، وهى مكاسب تمت على مدار سنوات طوال. والدليل على ذلك هو تردد حسن نصرالله فى مواجهة إسرائيل عسكريًا فى بدايات أزمة غزة، ذلك التردد الذى استمر لشهور، قبل أن تبدأ مرحلة القصف الصاروخى والمسيّرات على شمال إسرائيل، التى أوصلت الأمر إلى ما نحن عليه الآن.
تلك الفكرة جاءت غير متسقة مع الرؤية التصعيدية التى تبنتها إيران، والتى اعتمدت على تصعيد العناصر الأكثر تطرفًا داخل الجماعات الموالية لها، مثلما باركت صعود يحيى السنوار فى حماس، بعد اغتيال إسماعيل هنية. وكذلك تبنى الخطاب السياسى المتصادم من خلال قيادات الحرس الثورى، أثناء مرحلة الرشقات الصاروخية الوهمية التى تمت بين إيران وإسرائيل بعد أحداث السفارة الإيرانية فى دمشق، وكذلك بعد مقتل هنية. وبالمناسبة ذلك الخطاب التصعيدى لم يظهر من قيادات الحرس الثورى بعد اغتيال حسن نصرالله. فالوظيفة السياسية لتبنى هذا الخطاب انتهت بزوال نصرالله وغيره من قيادات الحزب، وأصبح الطريق الآن مفتوحًا لإعادة هيكلة الحزب بما يتناسب مع توجهات إيران.
لذلك يُعتبر «هاشم صفى الدين»، الرجل الثانى فى تنظيم حزب الله، هو الأقرب للفوز بالرضا الإيرانى، وهو المقدم الآن فى الواجهة الإعلامية فى إيران بوصفه الأنسب لتولى مكانة حسن نصرالله. قيمة صفى الدين لا تأتى فقط بوصفه المسئول عن أقوى كيان اقتصادى مشترك إيران وحزب الله، ولا لكونه صهر قائد فيلق القدس المغتال «قاسم سليمانى»، وكذلك الأقرب إلى فكرة الحوزى فى قم، ولا لأنه من المغضوب عليه دوليًا، والموضوع على قوائم الإرهاب عالميًا. أو لأن أخاه «عبدالله صفى الدين» هو المسئول عن مكتب حزب الله فى إيران. لكن الأهم هو ميوله الفكرية التى تتسم بالتطرف والرغبة فى المزيد من المصدامات والعمليات العسكرية ذات الطابع المغامر. ما يتفق مع توجهات طهران فى خلق بؤر صراع متطرفة للضغط على إسرائيل بوصفها الوكيل الرسمى للولايات المتحدة فى المنطقة. فالسنوار وصفى الدين، قد يشكلان ضغطًا لا يقبل التفاوض أو أنصاف الصفقات مع الكيان الصهيونى، ما يضمن لإيران المزيد من المكاسب على المدى الطويل.
اختلاط أوراق اللعب في إيران
اتخذت ردود الأفعال فى الداخل الإيرانى، أشكالًا متباينة بعد مقتل حسن نصرالله، فعلى المستوى الشعبى، ظهرت العديد من الأصوات التى تعلن رضاها عن حادثة الاغتيال، خاصة من يتبنون وجهة النظر الرافضة لاستنفاذ المقدرات الإيرانية لصالح ميليشيات تابعة، لا تعود على المواطن بأى نفع اقتصادي،بل قد تسببت فى مزيد من العقوبات والأزمات التى انعكست على حالة التضخم العام، وبالتالى على حياة الفرد فى أبسط تفاصيل حياته اليومية. وفى المقابل الاتجاه الشعبى الآخر والمؤدلج بطبيعة الحال، سواء من قوات الباسيج أو الحرس الثورى وطلاب الحوزة الدينية، الذى يتماشى مع توجهات النظام بشكل عام، والذى تحركت جموعه فى الميادين الرئيسية حزنًا على مقتل نصرالله.
ولكن على المستوى الرسمى، اختلطت العديد من ردود الأفعال التى تعكس تناقضًا واضحًا فى تعامل النظام مع الأزمة الجديدة، فبعد مرحلة إعلان الحداد العام، جاءت تصريحات التيار المقرب من المرشد والمعبر عنه فى أكثر من إصدار صحفى على رأسها جريدة «كيهان»، وممثل المرشد داخلها الكاتب الأشهر «حسين شريعتمدارى» الذى دعا إلى هجوم عسكرى محدود ضد مصالح إسرائيل وأمريكا فى دول الجوار، «الدول الأضعف» على حد قوله، وكان يقصد دول الخليج. كما ظهرت الحوزة الدينية فى قم ولأول مرة على مستوى التصريحات السياسية، ليصرح بعض آيات الله أصحاب الميول المتشدد إلى شن حرب شاملة على إسرائيل، وشكلت هذه الدعوة ثقلًا سياسيًا لا يستهان به، خاصة أن طلاب الحوزة العلمية لهم حضور على المستوى الاجتماعى بشكل ملحوظ. قد يكون تدخل الحوزة على خط التصريحات السياسية مرتبطًا بعلاقة حسن نصرالله التعليمية والدينية بالحوزة، فهو حجت الإسلام والمسلمين حسن نصرالله، وهو لقب علمى يؤهل صاحبه لنيل مكانة رفيعة داخل الأوساط الدينية الشيعية.
ولكن هذه الدعوات وما تحمله من تطرف لم تلق قبولًا على المستوى الرسمى أو الشعبى، ففى المقابل خرجت العديد من التصريحات لقيادات الدولة، وهى تدعو إلى سياق أكثر حكمة وتهدئة، حتى إن بيان الحرس الثورى جاء خاليًا من أى دعوات تحريضية، رغم أن أحد ضحايا اغتيال نصرالله كان «عباس نيلفروشان» القيادى الأبرز فى فيلق القدس، والمسئول عن حزب الله من الجانب الإيرانى، والمساهم فى قمع الاحتجاجات فى سوريا، وله باع عظيم فى قمع الاحتجاجات فى الداخل الإيرانى عام 2022 بعد مقتل «مهسا أمينى»، والمفروضة عليه عقوبات أمريكية وأوروبية. فالاتجاه العام للدولة الإيرانية، هو محاولات ضبط النفس بشتى الطرق الممكنة، وعدم التورط فى مصادمات عسكرية مباشرة مع إسرائيل، حتى لا تخسر مساحات من المكاسب المتوقعة.
بل إن بعض المحللين فى الداخل الإيرانى، ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فأقروا بضعف البنية العسكرية الإيرانية أمام إسرائيل، مشيرين إلى ضرورة إعادة الهيكلة العسكرية خلال الفترة المقبلة، وكذلك مراجعة الوضع الأمنى والاستخباراتى الذى أثبت الفترة السابقة أنه قد تم اختراقه أكثر من مرة، منذ اغتيال هنية، أو تسريب موعد اجتماع حسن نصر ومكان تواجده، وكذلك مخابئ سلاح حزب الله. فالأمر أصبح يمثل خطورة حقيقية على النظام الأمنى فى إيران.
لم يمر مقتل نصرالله مرور الكرام على الساحة الإيرانية، لكنه ترك أثرًا كبيرًا على ترتيب الأوراق السياسية فى الداخل، ما ينعكس على توجهات إيران الخارجية، ولكن فى كل الأحوال طهران ستحاول إعادة تقديم نفسها بشكل أكثر توافقًا مع المتطلبات الغربية، وقد تبتعد نهائيًا عن أى تصعيد معلن، حتى وإن استمرت فى دعم جماعات المقاومة، على المستوى العسكرى، لتضمن ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل ومن وراءها، ولكن سيظل البحث عن المصلحة العليا، والحفاظ على وجود النظام أمام الأزمات الاجتماعية، هو الاتجاه الأهم والأقوى فى الممارسات السياسية المقبلة.