ترامب- نتنياهو.. وجهان لعملة واحدة
أوضحت كامالا هاريس، المرشحة لمنصب الرئاسة الأمريكية، فى خطاب قبولها فى المؤتمر الوطنى الديمقراطى: «سأدافع دائمًا عن حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، وسأضمن دائمًا أن تتمتع إسرائيل بالقدرة على الدفاع عن نفسها، لأن شعب إسرائيل يجب ألا يواجه أبدًا مرة أخرى الرعب الذى أحدثته منظمة حماس فى السابع من أكتوبر».. ومع ذلك، يشعر نتنياهو بالذعر إزاء احتمال تولى هاريس الرئاسة.. فهو على يقين من أنها لن تسمح له بمواصلة العبث على حساب أغلبية الإسرائيليين الذين يريدون رحيله، والفلسطينيين الذين لا يرون أى أمل فى أى مستقبل فى ظل وجوده فى السلطة.. وهذا هو السبب الذى يجعل نتنياهو يشعر بالذعر فى هذه اللحظة بالذات.. فمن نواح عديدة، لا بد وأن تكون هاريس أسوأ كابوس بالنسبة له.. فهو يدرك أنه على الرغم من كونها صديقة ومؤيدة لإسرائيل، فإنها ليست فى جيبه، ولا هى سهلة المنال، كما هو حاله مع دونالد ترامب، المرشح الثانى فى الانتخابات، فى ضوء تاريخهما الماضى.. فلماذا لا يريد نتنياهو كامالا رئيسةً للولايات المتحدة، ويتمنى- فى نفس الوقت- لو جاء ترامب بدلًا منها؟
انبرت صحيفة «الإندبندنت»، ومجلة «النيوزيويك» البريطانيتان للإجابة عن هذا السؤال، عبر مقالين، الأول تحت عنوان «لماذا يشعر نتنياهو بالذعر إزاء احتمال تولى هاريس الرئاسة؟»، لمناحيم روزنسافت، أستاذ مساعد القانون فى كلية الحقوق بجامعة كورنيل، والثانى بعنوان «هناك أوجه تشابه بين سقوط نتنياهو وسقوط ترامب».
يقول روزنسافت إن رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، يتقاسم اثنتين من السمات المهمة مع الرئيس السابق دونالد ترامب.. فمثل ترامب، نتنياهو نرجسى، وغير قادر على التعاطف مع الآخرين الذين يعتبرون مصالحه الشخصية وبقاءه السياسى ذات أهمية قصوى.. ومثل ترامب أيضًا، يريد نتنياهو بشدة أن يفوز ترامب فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى يكون لديه أمل فى البقاء خارج السجن.. وهذا هو كل ما نحتاج إلى معرفته، لتفسير سلوك نتنياهو قبل شهرين من الانتخابات الأمريكية.
دوافع ترامب ليست جديدة.. فمعظم الأمريكيين-حتى نشطاء حركة «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، المتعصبين الذين يقدسون ترامب- يدركون أن الصعوبات القانونية التى يواجهها ترامب سوف تتزايد أو تتناقص بشكل كبير، اعتمادًا على من سيؤدى اليمين الدستورية فى الحادى والعشرين من يناير المقبل، باعتباره الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة.. وهناك سيناريو واحد: أن يعيش فى البيت الأبيض لمدة أربع سنوات أخرى؛ أما السيناريو الآخر، فيتضمن على الأقل غرامات باهظة وربما زى سجن برتقالى اللون.. لكن ما لا يدركه العديد من المراقبين خارج إسرائيل، هو أن نسخة ترامب المُصغرة، وهو نتنياهو، تواجه نفس المصير تمامًا.. إلا أن وضع نتنياهو أكثر خطورة من وضع ترامب.
الوضع السياسى الحالى الذى يعيشه نتنياهو يتمثل فى متلازمة «قشر الموز»، فهو يضع قدمًا واحدة فى النسيان السياسى، والأخرى على قشر الموز.. ومثل ترامب، يواجه نتنياهو اتهامات جنائية متعددة، وتجرى محاكماته المختلفة.. ومن المتوقع أن تتسارع هذه المحاكمات بسرعة هائلة، إذا أُجبر على ترك منصبه فى أى وقت قريب.. ولنتنياهو أسباب وجيهة للاعتقاد بأن زميله المستبد ترامب لن يكون لديه أى اهتمام بحل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، وهو ما يعنى بالضرورة إنهاء الحرب الحالية بين إسرائيل وحماس فى غزة.. كما أن أحد مستشارى ترامب الرئيسيين، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، هو السفير الأمريكى السابق لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، الذى يدعم المطالبات اليهودية القومية المتطرفة بالضفة الغربية، ويعارض حل الدولتين، أو أى شكل من أشكال الدولة للفلسطينيين، على الإطلاق.
وعلينا أن نعرف، أن الدعم المالى الذى تقدمه إحدى أكبر الجهات المانحة لترامب، المليارديرة ومالكة فريق دالاس مافريكس، ميريام أديلسون، أرملة قطب الكازينو فى ماكاو، شيلدون أديلسون، مشروط بسماح ترامب لإسرائيل بضم الضفة الغربية، إلى جانب اعتراف الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على كل الأراضى الفلسطينية.. هذا الحلم الطوباوى، ليس فقط لنتنياهو، بل ولمجموعة المتطرفين اليمينيين الذين يدعمون حكومته بالكامل، سيكون أقل من الحقيقة.. ومثل هذا التطور، الذى يتعارض مع السياسة الأمريكية فى ظل إدارات ديمقراطية وجمهورية متعددة، من شأنه أيضًا أن يؤدى إلى توقف أى احتمال، ليس فقط للسلام الإسرائيلى الفلسطينى، ولكن أيضًا للتعايش الإسرائيلى الفلسطينى.. كل هذا يفسر، لماذا لا يريد نتنياهو التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى الحرب بين حماس وإسرائيل، وإعادة الرهائن الذين أسرتهم حماس فى السابع من أكتوبر، والذين ما زالوا على قيد الحياة.. وهو يعلم أنه فى اليوم التالى للتوصل إلى مثل هذا الاتفاق، لن يكون قادرًا على الصمود فى وجه الدعوات إلى إجراء انتخابات جديدة، وهو ما قد يخسره بكل تأكيد.
ولكن كيف يمكن تفسير تعليقاته القاسية التى وجهها لأسر الرهائن؟
لقد قلل من أهمية السابع من أكتوبر بقوله، كما ورد فى تسجيل صوتى مسرب، إن «اليهود ارتكبوا خلال المحرقة جريمة السابع من أكتوبر أربعة آلاف وخمسمائة مرة كل يوم».. أما بالنسبة لأسر الرهائن، فقد قال لهم إن قلقه المُعلن على ما أسماه «مستقبل دولة إسرائيل» يفوق إنقاذ الرهائن.. والشهر الماضى، ورد أن نتنياهو قال، فى اجتماع لمجلس الوزراء، إنه لا ينبغى لهذه الأسر أن تكون قلقة بشأن التوصل إلى اتفاق، لأن «الرهائن يعانون ولكنهم لا يموتون».. كان من الواجب إجبار نتنياهو على الاستقالة فورًا بعد السابع من أكتوبر، عندما تأكدت مسئوليته عن ذلك اليوم، لكن ما نجح نتنياهو فى تحقيقه حتى الآن، هو استنفاد الوقت.
ولكن هل كان نتنياهو هو الذى سمح لحماس بتلقى تمويلات تصل إلى مليارات الدولارات، منذ توليه منصب رئيس الوزراء عام 2009، وهو المنصب الذى ظل يشغله منذ ذلك الحين، باستثناء عام واحد عندما كان خارج السلطة؟.. وهل كان نتنياهو هو الذى سمح بتهديد أمن الكيبوتسات والبلدات على الحدود بين إسرائيل وغزة، من خلال نقل الوحدات العسكرية إلى الضفة الغربية بإصرار من شركائه الفاشيين فى الائتلاف.. وهل كان هو الذى اعتقد أنه من خلال السماح لحماس بالسيطرة على غزة، سيكون قادرًا على الاستمرار فى تجنب الحديث مع السلطة الفلسطينية، حول أى نوع من المسار السياسى إلى الأمام؟
نتنياهو، مثله كمثل ترامب، عاجز نفسيًا، وربما فطريًا، عن الاعتراف بأنه ربما ارتكب خطأ.. ففيما يتصل بنتنياهو، يتحمل الجميع المسئولية عن أى شىء، وكل شىء حدث خطأ فى السابع من أكتوبر وما تلاه، ولكن ليس هو.. وعلى هذا، فمن المتوقع أن يواصل نتنياهو محاولاته للتلاعب بالعالم، كما فعل بدرجة مؤسفة من النجاح على مدى الأشهر الحادية عشر الماضية.. إلا أنه يعلم أن نائبة الرئيس كامالا هاريس لديها رقم هاتفه.. فهى مدعية عامة سابقة، وكما تعاملت مع أمثال دونالد ترامب، فقد تفوقت على خصوم كانوا أكثر تعقيدًا وأقل شفافية من نتنياهو.
نعود إلى أوجه الشبه بين ترامب ونتنياهو.
كان صعود بنيامين نتنياهو مشابهًا جدًا لصعود دونالد ترامب.. فقد فاز كلاهما بالسلطة كزعيمين قوميين شعبويين، مما أدى إلى تفاقم الاستقطاب واستغلاله داخل بلديهما.. لقد ضخّم نتنياهو التهديد الذى يشكله الفلسطينيون فى نظر الناخبين الإسرائيليين.. أما ترامب فقد شيطن السود والمهاجرين.. وعلى نحو مماثل، تشترك القصص التى تروى كيف سقط كل منهما فى نقاط مشتركة.. فقد خسر كل منهما منصبه بفارق ضئيل للغاية- ترامب فى الانتخابات الرئاسية للدورة الماضية؛ ونتنياهو بفارق صوت واحد فى الكنيست.. وربما تضررت عبادة شخصيتهما، لكنهما يحتفظان بمكانة مهيمنة على أقصى اليمين، ومعها فرصة قوية لاستعادة السلطة.. ومن المرجح أن تتم أى عودة إلى القيادة من خلال إثارة العداء على كل جانب.
بعد إقالته بعد اثنى عشر عامًا من توليه منصب رئيس الوزراء الإسرائيلى، قال نتنياهو- وقتها- للكنيست: «سأقودكم فى معركة يومية ضد هذه الحكومة اليسارية السيئة والخطيرة وسأسقطها».. وقد استخدم ترامب باستمرار نفس النوع من الخطاب العدوانى منذ خسارته الانتخابات الرئاسية، وأشهرها فى يوم غزو الكابيتول.. إن المسألة لا تتعلق فقط بالبقاء السياسى الشخصى لنتنياهو، بل بمصير «النتنياهوية»، باعتبارها صيغة سياسية تنتج مزايا كبيرة لإسرائيل، كما فعلت فى الماضى.. التغيير الأكثر أهمية هنا هو أن جو بايدن حل محل ترامب- الذى أعطى نتنياهو كل ما أراده كرئيس، بما فى ذلك إنهاء الاتفاق النووى مع إيران ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس- على الرغم من كل دعمه الصريح لإسرائيل، سيكون سعيدًا جدًا برؤية نهاية حقبة نتنياهو، وسيحاول سرًا التأكد من أنها دائمة.
■■ وبعد..
بعد كل المواقف المتعنتة التى يمارسها نتنياهو، ووضع بها بايدن فى مواقف حرجة، هناك إشارات مهمة إلى أن الدعم التلقائى الذى تقدمه الولايات المتحدة والحزب الديمقراطى لإسرائيل لم يعد من الممكن اعتباره أمرًا مفروغًا منه، كما كان الحال فى الماضى.. وهناك ثمن سياسى يتعين على إسرائيل أن تدفعه، نظير احتضان نتنياهو ترامب، الذى يعتبره العديد من الأمريكيين تجسيدًا للشر السياسى.. لقد كانت الضربة الأخرى التى تلقاها نتنياهو واضحة فى سياق الحرب الأخيرة فى غزة، والتى أظهرت أن سبعة ملايين فلسطينى، تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة أو الجزئية لم يتم تهميشهم إلى الحد الذى يمكن تجاهلهم فيه.. وتبين أن التطبيع، الذى طالما تم الترويج له، للعلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربية بقيادة الإمارات العربية المتحدة، لم يكن له أى معنى.
وبدلًا من ذلك، اندلعت المواجهة الإسرائيلية- الفلسطينية على جبهات متعددة، القدس الشرقية، والضفة الغربية، وإسرائيل، وغزة.. لقد ثبت خطأ أطروحة نتنياهو المركزية، التى سعى إلى إثباتها منذ أصبح رئيسًا للوزراء لأول مرة عام 1996، بأن الفلسطينيين شعب ليست هناك حاجة إلى التوصل إلى تسوية معه.. وكما هى الحال مع ترامب فى الولايات المتحدة، يحتل نتنياهو الآن موقفًا غريبًا فى السياسة الإسرائيلية.. فهو يهيمن على اليمين، ولكنه يُقسمه أيضًا.. كذلك، فإن الكراهية والخوف اللذين يثيرهما، يشكلان الغراء الذى يربط حكومة مكونة من أعدائه من كل الأطياف السياسية.. وعلى نحو مماثل، ينجح ترامب فى حشد الأصوات لصالح الجمهوريين، ولكنه يحشد أيضًا الأصوات ضدهم.. لقد فشل نتنياهو فى الفوز بما يكفى من المقاعد، لتشكيل حكومة فى الانتخابات الإسرائيلية الأربع الأخيرة، وحتى لو انهارت الحكومة الجديدة، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأنه سيحقق نتائج أفضل فى المستقبل.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.