رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكذوبة محور فيلادلفيا!

يتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، من محور فيلادلفيا «شماعة» يعلق عليها إخفاقاته فى حربه على قطاع غزة، وذريعة لعدم الوصول إلى وقف إطلاق النار فى القطاع واسترجاع المحتجزين، حفاظًا على بقائه السياسى، بدعوى أن البقاء فى هذا المحور يمنع حركة حماس من إعادة التسلح، لأنه فى زعمه قناة رئيسية لنقل الأسلحة والأموال إلى مقاتلى حماس، كما أنه يشكل ضرورة أساسية لتحقيق أهداف الحرب!.. مما أثار توترات مع مصر وامتعاض القاهرة من تعنت نتنياهو، وتمسكه بالسيطرة على الممر الحدودى فى قطاع غزة، والذى تجلى ببيان الخارجية، الذى أكدت فيه القاهرة أن على نتنياهو تحمل عواقب سياساته، وعدم الزج باسمها لـ«تشتيت انتباه الرأى العام الإسرائيلى».. وأبدت اعتراضها على أى وجود إسرائيلى هناك، وحذرت من أنه ينتهك اتفاقيات كامب ديفيد، خصوصًا وأن مصر دمرت أكثر من ألف وخمسمائة نفق تهريب، على مدى العقد الماضى، وأنشأت منطقة عازلة عسكرية بعمق ثلاثة أميال تقريبًا، على جانبها من الحدود فى شمال سيناء، مما جعل أى عملية تهريب «مستحيلة».
والحقيقة التى يدركها الجميع، بما فى ذلك الولايات المتحدة، أن نتنياهو يكذب على طول الخط، خصوصًا فيما يتعلق بمحور فيلادلفيا.. وهو ما يؤكده الكاتب الإسرائيلى، آفى إشكنازى، فى مقال له بصحيفة «معاريف» العبرية، إذ يقول إنه من المجافاة للحقيقة، تصديق أن ما استخدمته حماس من سيارات ومعدات وأسلحة، خلال هجومها فى السابع من أكتوبر الماضى، وما تستخدمه حاليًا من أسلحة فى حرب غزة، قد جاء عبر الأنفاق فى مصر.. لأن سيارات «التويوتا» التى شاركت فى هجوم السابع من أكتوبر، لم تدخل من تحت ممر فيلادلفيا، إنما جاءت من اليابان بحرًا إلى ميناء أسدود الإسرائيلى، ثم نقلت فوق سيارات نقل كبيرة إلى داخل غزة، عبر معبر كرم أبو سالم، فى إطار عمليات تهريب، يقوم بها منتفعون إسرائيليون، وهؤلاء كثيرون.. ومنهم من يُحرض جنود الاحتياط على سرقة قطع الأسلحة من الجيش، وبيعها لحماس، وكذلك الرشاشات والأسلحة الأمريكية التى يبيعها بدو النقب الإسرائيلى.
ويفسر آفى أشكنازى، سر الورش التى تمتلكها حماس فى الأنفاق، والمسئولة عن تصنيع الكثير من الأسلحة، مثل بنادق «الغول» للقنص، التى تأتيها عدسات توجيه الهدف بنفس طريقة الأسلحة.. يقول آفى إن بعض المصانع الإسرائيلية التى تملك ماكينات خراطة، وتود استبدالها بأخرى حديثة، أو تلك المصانع التى أفلست وأغلقت أبوابها.. هؤلاء يبيعون ماكينات الخراطة كـ«خردة» لتجار من غزة، وهؤلاء يسلمونها إلى حماسن لينشئون بها ورش تصنيع أسلحتهم.. أما المواد المتفجرة التى تُصنع منها الطلقات والقنابل وغيرها مما تستخدمه المقاومة، فمصدرها قنابل زنة ألفى رطل الإسرائيلية، التى ألقتها طائرات سلاح الجو، أو قذائف المدفعية، ولم تنفجر، خلال الحروب المتعددة الماضية.. هذه تجمعها حماس كمخلفات حرب، وتكون مصدرًا لكل القذائف التى تُصنعها.. لذلك، فإن الصحف الأمريكية الكبرى، تستحث تل أبيب على ضرورة جمعها مخلفات الحرب الحالية بعد انتهائها، وإلا ستكون مصدر نيران رهيبة لحماس فى المستقبل.. لذلك، يتذرع نتنياهو بالتمسك بالبقاء فى محور فيلادلفيا، لأنه يفضل إطالة أمد الحرب لإرضاء حلفائه من اليمين المتطرف «والحفاظ على السلطة»، بدلًا من التوصل إلى اتفاق يوقف الأعمال العدائية، ويطلق سراح الرهائن المتبقين.. كما يؤكد منتقدوه من الإسرائيليين، وكما يقول الكاتب الإسرائيلى، إيشان ثارور، فى مقال له بصحيفة «واشنطن بوست»، تحت عنوان، (نتنياهو يريد المزيد من الحرب).
قبل نصف قرن من الزمان، قال وزير خارجية إسرائيل الأسبق، أبا إيبان، مازحًا، مقولة ظلت عالقة فى أذهان الفلسطينيين لعقود من الزمان بعد ذلك، «إن العرب لا يفوتون أبدًا فرصة تفويت الفرصة»، فى إشارة واضحة إلى رفض محاوريه من الفلسطينيين والعرب، التوصل إلى تسوية مع الدولة العبرية.. وفى بداية هذا القرن، وفى خضم التقلبات المتقاطعة التى تشهدها عملية السلام بين الجانبين، كان يُستشهد بهذه المقولة فى واشنطن فى كثير من الأحيان، لانتقاد عدم رغبة القادة الفلسطينيين فى التخلى عن بعض مواقفهم التى يتمسكون بها بعناد.. لكن الكثير من المياه تدفقت تحت الجسر، منذ اتفاقيات أوسلو والمحادثات الفاشلة فيما بعدها.. فالمخاوف الأمنية الإسرائيلية والحكم العسكرى الفعلى، يتغلبان على الحقوق المدنية لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون فى الضفة الغربية.. وفى قطاع غزة، شهد نحو مليونى فلسطينى حياتهم تغرق فى كارثة إنسانية مترامية الأطراف، مع شن إسرائيل حربها الساحقة ضد حماس، فى أعقاب هجوم السابع من أكتوبر على جنوب إسرائيل.. وقليلون هم فى المؤسسة السياسية الإسرائيلية الذين يستثمرون الآن فى مشروع صنع السلام مع الفلسطينيين؛ ويبدو أن عددًا أقل من الإسرائيليين مهتمون بمنح الفلسطينيين حق تقرير المصير، أو إقامة دولة مستقلة.
وهذا يشمل رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الذى ظل فى منصبه لفترة أطول من أى زعيم إسرائيلى آخر، والذى يفتخر بتقويض احتمالات «حل الدولتين»، وهو الآن يقود حربًا فى غزة، دمرت جزءًا كبيرًا من الأراضى الفلسطينية الصغيرة، وأودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين.. وفى خضم الصخب المحلى والدولى المتزايد من أجل وقف إطلاق النار، يزعم منتقدو نتنياهو أنه يفضل إطالة أمد الحرب لإرضاء حلفائه من اليمين المتطرف والاحتفاظ بالسلطة، بدلًا من التوصل إلى اتفاق يوقف الأعمال العدائية ويطلق سراح الرهائن المتبقين فى أسر حماس.. أى أنه، بعبارة أخرى، هو الآن الذى يختار «تفويت الفرص» وليس الفلسطينيون، كما يفهم الأمريكيون!.
كتب مايكل كوبلو، من منتدى السياسة الإسرائيلية، أن «نتنياهو ليس على استعداد لاغتنام الفرصة لإخراج الإسرائيليين من الجحيم الحقيقى، قبل أن يتأكد من أن ذلك لن يكلفه على الفور رئاسته للوزراء، حتى لو تكلف ذلك حياة المزيد من الرهائن.. إذا كانت هناك فرصة ضائعة، يجب إدانة نتنياهو بسببها دون تحفظ، فهذه هى المشكلة الحقيقية».. وكان كوبلو قد طرح هذه الرؤية فى يوليو الماضى، أى قبل وقت طويل من التطورات التى شهدتها الأيام الأخيرة، فى أعقاب استعادة جثث ست رهائن نهاية الأسبوع الماضى.. فقد نزل آلاف المحتجين إلى شوارع المدن الإسرائيلية، وتجمعوا أمام منزل نتنياهو، الذى «اتهموه بنسف صفقة لصالح مصالحه السياسية».
الإجماع المتزايد داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يتفق مع هذا الرأى.. فقد قال أحد المسئولين الإسرائيليين فى حديثه عن الرهائن، «لقد قتلتهم حماس، وهى الشريرة هنا، ولكن حكومتى أهملتهم.. لقد كان بوسعنا أن ننقذهم.. لقد ارتكبت حماس الجريمة ولابد أن تتحمل المسئولية، ولكن حكومتى كانت تتحمل المسئولية عن فعل كل ما يلزم لإنقاذهم، ولكنها فشلت فى إنقاذهم وإنقاذ أسرهم.. ونحن مدينون لهم بالاعتذار».. وإذا كان نتنياهو قد طلب العفو من عائلات الرهائن، فى خطابه الأخير، إلا أنه كرر وعده بمواصلة الحرب والضغط من أجل القضاء على حماس.. مع أن العديد من الجنرالات الإسرائيليين، وحتى بعض حلفاء نتنياهو المفترضين، يشككون فى إمكانية تحقيق «نصر كامل» حقيقى على حماس.. ولكن الحقيقة المؤكدة أن نتنياهو نجح فى إحباط مفاوضات وقف إطلاق النار، بإصراره على الوجود العسكرى الإسرائيلى فى ممر فيلادلفيا.. وهى خطوة كان المسئولون يدركون جيدًا أن من شأنها أن تقوض الاتفاقيات الأولية، التى تم التوصل إليها بشكل غير مباشر مع حماس، من خلال المفاوضين الأمريكيين والمصريين والقطريين.
يقول نتنياهو إن البقاء فى الممر ضرورى لمنع حماس من تهريب الأسلحة، وهو الموقف الذى يُغذى التوترات مع مصر، والمعارضة الصريحة المتزايدة من قبل شخصيات داخل المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، الذين يقولون إن البلاد يجب أن تعطى الأولوية لإعادة رهائنها.. ويقللون من أهمية الوجود الإسرائيلى فى فيلادلفيا، ويصفون مطالب رئيس الوزراء «المُحاصر»، بأنها محاولة لعرقلة اتفاق يمكن أن يُضعفه سياسيًا.
وفى مساء الثلاثاء الماضى، هاجم بعض منافسى نتنياهو الرئيسيين تصرفاته.. قال بينى جانتس، وزير الدفاع السابق، وهو يقف إلى جانب زميله النائب جادى آيزنكوت، الذى انضم إلى جانتس فى الاستقالة من حكومة نتنياهو «فى زمن الحرب»، فى وقت سابق من هذا العام، «نحن نقف هنا أمامكم لنقول الحقيقة: يجب إعادة الرهائن حتى ولو بثمن باهظ للغاية.. إن ممر فيلادلفيا ليس التهديد الوجودى لدولة إسرائيل».. وقبل ذلك بيوم، أعرب الرئيس الأمريكى، جو بايدن، عن إحباطه إزاء «عدم بذل نتنياهو ما يكفى من الجهود للتوصل إلى اتفاق».. لكنه وقف جنبًا إلى جنب مع حكومة نتنياهو طوال فترة الحرب، ولم يمارس سوى القليل من النفوذ، لإجبار نتنياهو على اغتنام الفرصة الدبلوماسية أمامه.. ومن غير الواضح ما هو التأثير إن وجد للتحرك البريطانى الأخير لتعليق جزء بسيط من تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، على نتنياهو.. إلا أن أعظم الضغط على نتنياهو، يأتى من الداخل، من المحتجين وعائلات الرهائن والمؤسسة الأمنية الحذرة من أجندة نتنياهو.
■■ وبعد..
«إن استمرار العمليات الحالية فى غزة، لن يؤدى إلى تدمير حماس، بل سيجر إسرائيل إلى حرب طويلة ومُكلفة، وتصعيد متزامن فى ساحات أخرى»، هذا ما كتبه جراهام أليسون، الأستاذ فى جامعة هارفارد، وآموس يادلين، رئيس استخبارات الدفاع الإسرائيلية السابق، فى مجلة الشئون الخارجية.. «سوف يستمر الرهائن فى الموت فى أنفاق حماس؛ وسوف يستمر اقتصاد إسرائيل فى التدهور؛ وسوف تستمر مكانتها فى العالم فى الانحدار إلى مستويات متدنية جديدة؛ وسوف تشتد المعركة القانونية ضد نتنياهو وفريقه المتطرف فى المحاكم الدولية».. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.