جمال بخيت.. مصر المنصورة
لا أعرف لماذا تأخر الوطن، وتأخرنا جميعًا، نحن المصريين المهتمين بالشعر، فى تكريم الشاعر الفذ جمال بخيت «مواليد حى مصر القديمة بالقاهرة فى 29 يناير 1959، وسوهاجى الجذور»، لا أقصد طبعًا أنه لم ينل تكريمًا من قبل؛ فآخر تكريم له كان منذ أعوام قريبة، تكريم وزارة الثقافة المصرية، فى 25 مارس 2021، ونحن من أمامها ومن خلفها، على المسرح الكبير بالأوبرا، ضمن خطط الاحتفاء برموز القوى الناعمة، وقبله، بالتأكيد، نال تكريمًا كثيرًا تخلل مسيرته الحاشدة العبقرية، لكننى أقصد التكريم الجامع الذى بحجم الوطن، لا وزارة من وزاراته حتى لو كانت المختصة، كذلك بحجم درايتنا جميعًا بمكانته بالغة السمو والرفعة، كواحد من المؤسِّسين الباقين لحركة شعر العامية المصرية الفائرة كنبع متدفق.
يقف الصديق الكبير البديع، دون أدنى مبالغة، فى صف واحد مع بيرم التونسى وعبدالله النديم وفؤاد حداد وصلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود، يقف راسخًا بين هؤلاء الراسخين، بوجدان يخصه ولفظ وتفكير يشيران إليه، بعد أن زهت ألوان نقشه الفرعونى فى معبد أخذ اسمه وحمل وسمه.
شهد المبدع شاسع الأثر، بمدى تطورات مراحله الناضجة، عددًا من الأسماء العظيمة سالفة الذكر فى حيواتها، وحصد اعترافها بعد كفاح طويل، دنا من اسم أو اثنين، وبقى على مسافة واحدة ودودًا من الآخرين، لم يختر المخالطة التى تفضى إلى الذوبان ولا الجفاء الذى يدل على الخصومة، تأمل الشعر الذى نثروا أسراره فى الأرض الطيبة، فوجده وافرًا ووقره توقيرًا، لكنه بقدر ما استفاد منه انسلخ عنه ليكون نفسه التى يعتز بميلها الفطرى إلى الاستقلال، وقد ترك تقييمهم الإنسانى للدهر، حريصًا على إنسانيته من عواقب رصد الآخرين، وتتبع أخطائهم بالذات، لم يتفرغ لصراع قط، إنما للتركيز على مشروعه الأصيل والمختلف، وقد كان مشروعًا أصيلًا ومختلفًا حقًا، كما كانوا كلهم مشاريع أصيلة مختلفة.
حتى فى الكتابة عن الأجيال التى تلت جيله، والشباب الجدد الموهوبين، بقى مصرًا على انتقاء الجيدين، للحديث الطويل عنهم والتعريف الواسع بهم، بمعيار امتلاكهم الأدوات الضرورية للكتابة، مع قدرتهم على تحقيق وثوب خاص إلى مرتبة عالية فى ميدان الشعر، وقدم بعضهم فى الإعلام المرئى أيضًا، لم يشترط أن يكونوا منتمين إلى ذائقته، أو ممن مروا بطريقه، ولم يعبأ بكونهم من العاصمة أو الأقاليم، ولم يبحث يومًا عن ذوى المحدودية ليذم ما جادت به قرائحهم؛ لأنه لم يشأ إلا مديح الجودة وسيادتها، ولم يحبذ الإساءة إلى أحد أيًا كان!
«خدوا بالكو دى مصر المنصورة
مش أيُّها مصر
نيلها اللى بيطلع فى الصورة
بعلامة النصر»
الكلمة له، واللحن لوليد سعد، والغناء لنانسى عجرم، واحدة من مئات الأغانى التى صنعها الشعراء للوطن، لكنها متميزة تمامًا إذ رأت صورة فرعى النيل على الخريطة إيماءة نصر، هى هذه الإيماءة بالفعل، لكنه أول من بثها على هذا النحو من خلال اليراع المحترف النابه، صفا قلبه تجاه الوطن مما لم تصف منه قلوب الناقمين من الشعراء، وهم كثرة فرق بينهم وبين بلادهم الإحباط، فصفا التقاطه البصرى وجاءت صورته الشعرية على مقاس صفاء قلبه، وما أشد التصاقها بنفس تحب لوطنها هذا المعنى ولا تحب سواه، ونفسه المتفائلة الشبعى هكذا بالضبط، تنشد النصر سرمديًا، وتجد فى محاولة خلقه لبلده ومواطنيه وأمته بأسرها.
هوجم الرجل بالرغم من وداعته اللا نهائية، بطول مشاويره، لكنه لم يبال سوى بأن يظل وديعًا، وليهد الله المتربصين بخطواته، أو ليحترقوا بنار غيظهم نفسها، الغيظ الذى يعكس حسدًا وحقدًا يكفيان لملء جوف الشيطان!
لا يصح البتة، بعد نتاجه العريض الآسر فى الشعر والأغنية «تشمل أغانيه تعبيراته الحميمة الأخاذة عن الدراما أيضًا»، وبعد إسهاماته الفنية والثقافية الراقية الملهمة، وبعد تاريخه الحافل بالاكتشافات الشعرية التى خصص جهدًا هائلًا لها، ونوه عنها، ووطد وجودها فى وسطها الطبيعى، أن يظل الرجل بلا إشادة باهرة الإشراق وليست اعتيادية، بل الواجب أن تتقدم الدولة إليه، ونتقدم جميعنا معها، نفاجئه بالإكبار الصادق المجسَّد تجسيدًا غزير الغنى المادى والمعنوى، قبل أن يسبقنا به إليه غيرنا، وكم سبقونا إلى آيات أزمنتنا وكنا أولى بالسبق، نمنحه الأشياء النفيسة التى كان يستحقها منذ سنوات بعيدة، فى شكل احتفالية ضخمة على شرفه، تقام فى مكانها المناسب، وحبذا السوح العامة الفسيحة التى طالما استهدفتها شموسه، ويدعى إليها مصريون وعرب وعالميون معتبرون فى مجاله، يلقى خلالها كلمته وشهادته وبعض آرائه وأفكاره وأشعاره، نستريح فى ظلاله الوارفة، ونصغى إليه إصغاء الفخورين بأشجاره وثماره، ثم نصفق، قيامًا، لتجلياته منقطعة النظير فى بساطتها وعمقها وجمالها الفريد.