إصلاح جذرى.. "الدستور" ترصد مكاسب 5 أشهر من معركة «تحرير سعر الصرف»
على مدار ٥ أشهر، أدارت الدولة ملف السياسات النقدية بنجاح منقطع النظير، فى إطار مساعيها لتخطى أزمة الدولار والتغلب على تبعاتها، على ضوء أهداف طموحة وضعتها للوصول إلى مستوى جيد وآمن من الاحتياطيات الدولية.
يأتى على رأس هذه الأهداف زيادة الحصيلة الدولارية بمعدل يقارب ٦٠٪، خلال الفترة بين عامى ٢٠٢٣/٢٠٢٤ و٢٠٢٦/٢٠٢٧، لتصل إلى حدود ١٩١ مليار دولار بنهاية هذا التاريخ، فى إطار تأمين كل احتياجات البلاد من النقد الأجنبى، عن طريق تنشيط كل الموارد الجالبة للعملة الصعبة.
كيف عملت الحكومة ولا تزال لتحقيق هذه الأهداف؟ وما الذى تحقق منها حتى هذه اللحظة؟ وما الذى يواجهها من تحديات؟.. أسئلة نحاول الإجابة عنها فى السطور التالية.
قفزة فى تحويلات المصريين بالخارج وإيرادات قناة السويس والسياحة
تظهر مؤشرات أداء موارد النقد الأجنبى تطورها بشكل ملحوظ، بداية من الربع الثانى فى العام الجارى ٢٠٢٤، بالتزامن مع الانفراجة الأخيرة فى أزمة الدولار.
وبدأت بعض موارد العملة الصعبة استعادة النمو الإيجابى فى عوائدها، على رأسها تحويلات المصريين من الخارج، التى حققت ارتفاعات متتالية على مدار ٤ أشهر، لتسجل ٧.٥ مليار دولار، خلال الفترة بين أبريل ويونيو ٢٠٢٤، مقابل ٤.٦ مليار دولار خلال الأشهر المناظرة من ٢٠٢٣، بمعدل زيادة ٦١.٤٪. كما تضاعفت تحويلات المصريين شهريًا من ١.٣ مليار دولار، قبل الإصلاحات النقدية الأخيرة، إلى ٢.٦ مليار دولار بعدها.
وامتدت، أيضًا، المؤشرات الإيجابية إلى قناة السويس، التى بدأت تستعيد إيراداتها الشهرية، لكن ببطء تأثرًا باستمرار الحرب الإسرائيلية فى غزة، واضطرابات حركة الملاحة فى منطقة البحر الأحمر. وأظهر أحدث التقارير الرسمية ارتفاع إيرادات القناة من أدنى نقطة لها فى فبراير ٢٠٢٤، حينما سجلت ١٠.٦ مليار جنيه، مقارنة بـ٢٥ مليار جنيه متوسط الإيرادات شهريًا قبل الحرب، لتعاود الارتفاع إلى ١٥.٢ مليار جنيه فى مارس الماضى، ثم ١٥.٨ مليار جنيه فى أبريل، و١٥.٩ مليار جنيه فى مايو، و١٤.٩ مليار جنيه فى يونيو من العام نفسه.
وعلى صعيد الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، سجل صافى الاستثمارات الأجنبية المباشرة ارتفاعًا ملحوظًا إلى ٣.٢ مليار دولار، خلال الربع الثانى من العام المالى ٢٠٢٣/٢٠٢٤، مقابل ٢.٤ مليار دولار، خلال الفترة المناظرة من العام السابق عليه، لتزداد نسبتها إلى الناتج المحلى الإجمالى من ٠.٦ لـ٠.٨٪.
وجاءت الدول العربية فى المرتبة الأولى كأكبر مصدر لتدفق الاستثمارات فى الداخل بنحو ٢ مليار دولار، لتشكل بذلك أكثر من ثلث التدفقات الاستثمارية إلى الداخل، تليها دول الاتحاد الأوروبى بنحو ١.٣ مليار دولار بنسبة ٢٢.٤٪، والولايات المتحدة الأمريكية ٧٠٠ مليون دولار بنسبة ١٢.١٪، وباقى دول العالم الأخرى ١.٣ مليار دولار بنسبة ٢٢.٤٪.
وعلى أساس سنوى، قفز صافى تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر من ٧.٩ مليار دولار فى عام ٢٠١٦/٢٠١٧، إلى ٢٥ مليار دولار خلال عام ٢٠٢٤/٢٠٢٥، لتحقق ارتفاعات متتالية من ٧.٩ مليار دولار فى ٢٠١٦/٢٠١٧ إلى ٧.٧ مليار دولار فى عام ٢٠١٧/٢٠١٨، و٨.٢ مليار دولار فى ٢٠١٨/٢٠١٩، قبل أن تتراجع إلى ٧.٥ مليار دولار و٥.٢ مليار دولار خلال عامى ٢٠١٩/٢٠٢٠ و٢٠٢٠/٢٠٢١، لتعاود الارتفاع مجددًا إلى ٨.٩ مليار دولار فى عام ٢٠٢١/٢٠٢٢ و١٠ مليارات دولار فى عام ٢٠٢٢/٢٠٢٣، و٢٣.٧ مليار دولار خلال عام ٢٠٢٣/٢٠٢٤، تأثرًا بتدفقات صفقة «رأس الحكمة».
وتشير بيانات وزارة التخطيط والتعاون الدولى إلى تحسن فى حجم الاستثمارات الخاصة، التى سجلت ارتفاعات متتالية فى الفترة الأخيرة، فى ظل توجه الدولة نحو إفساح المجال أمام القطاع الخاص وتمكينه من عدة أنشطة اقتصادية.
لذا استطاعت الدولة الاقتراب من الوصول بنسبة الاستثمارات الخاصة إلى إجمالى الاستثمارات المنفذة فيما قبل ٢٠١١، بعدما قفزت النسبة إلى ٤٨٪ فى عام ٢٠٢٤/٢٠٢٥، مقابل ٤٠٪ فى عام ٢٠٢٣/٢٠٢٤، و٣٦.٤٪ فى عام ٢٠٢٢/٢٠٢٣، و٢٤٪ فى عام ٢٠٢٠/٢٠٢١.
وارتفع عدد الشركات التى تم تأسيسها وشهدت توسعات إلى ٣٩ ألفًا و٢٤٧ شركة، خلال العام المالى ٢٠٢٣/٢٠٢٤، مقارنة بنحو ٣٣ ألفًا و٨٧٠ شركة، خلال العام المالى ٢٠٢٢/٢٠٢٣، بنسبة ارتفاع تبلغ نحو ١٥.٩٪.
كما ارتفعت رءوس الأموال المصدرة للتأسيسات الجديدة والتوسعات فى الشركات القائمة إلى ٣٢٦.٧ مليار جنيه، مقارنة بـ٢٣٠.٨ مليار جنيه، خلال العام المالى ٢٠٢٢/٢٠٢٣، بنسبة ارتفاع تبلغ نحو ٤١.٩٪.
وعلى صعيد السياحة، التى تعد موردًا مهمًا للنقد الأجنبى، واصلت إيرادات القطاع التحسن ليحقق أرقامًا تاريخية بوصولها إلى ١٠.٩ مليار دولار، فى التسعة أشهر الأولى من العام المالى ٢٠٢٣/٢٠٢٤، مقابل ١٠.٣ مليار دولار، فى الأشهر المناظرة من العام السابق عليه، تأثرًا بارتفاع عدد السائحين الوافدين إلى مصر إلى أكثر من ١١ مليون سائح.
حماية الاحتياطيات بالأوعية الاستثمارية وتيسير إيداع وسحب الدولار
رأى الدكتور كريم العمدة، خبير الاقتصاد السياسى، أن تحسن موارد النقد الأجنبى، سواء على صعيد السياحة أو تحويلات المصريين أو الاستثمارات الأجنبية، يرتبط بشكل مباشر بقرارات البنك المركزى، فى مارس الماضى، وما تبعها من غلق الباب الخلفى للسوق السوداء، وتدفق الأموال الساخنة إلى مصر، والوعود الأوروبية بضخ مزيد من الاستثمارات، وهى العوامل التى أسهمت جميعها فى توفير سيولة جيدة.
وأضاف «العمدة»، لـ«الدستور»: «التدفقات الدولارية المحققة فى العام الحالى، رغم أنها الأفضل مقارنة بالعامين الماضيين، لم تعد بعد إلى سابق عهدها، بسبب الاضطرابات والتحديات الإقليمية والعالمية، التى أثرت سلبًا على عدة قطاعات محليًا، مثل السياحة وقناة السويس».
وشدد الخبير الاقتصادى على ضرورة تبنى الحكومة عددًا من الإجراءات لمنع تآكل الحصيلة الدولارية سريعًا، على رأسها طرح أوعية استثمارية لامتصاص السيولة الدولارية من السوق، سواء عن طريق صناديق استثمار أو اكتتاب فى أسهم البورصة، وتشجيع صغار المستثمرين، وتسهيل مناخ الأعمال، إلى جانب التوسع فى توطين الصناعات لإحلال الواردات، مع إعطاء أولوية للمنتجات منخفضة ومتوسطة التكنولوجيا.
وقال وائل النحاس، خبير الاقتصاد وأسواق المال، إن الدولة تمكنت من إدارة ملف أزمة الدولار بشكل جيد، على نحو يسهم فى القضاء على السوق السوداء، وتحجيم محاولات المضاربين دفع الدولار إلى أعلى سعر من جديد، مشيرًا إلى أن استمرار هذه المكاسب يتوقف على الخطوات اللاحقة المزمع اتخاذها لتعزيز تنشيط وتعزيز موارد النقد الأجنبى.
وأضاف «النحاس»، لـ«الدستور»: «التوجه نحو مبادلة الديون والودائع الخليجية باستثمارات وشراء أصول، قد يكون له انعكاس إيجابى على تحسين أداء الجنيه أمام الدولار، وضخ سيولة دولارية جديدة فى شرايين الاقتصاد القومى، بالإضافة إلى العمل على تنشيط حركة الصادرات للوصول بها إلى ١٠٠ مليار دولار فى المستقبل القريب».
ونبه الخبير الاقتصادى إلى ضرورة التركيز على تذليل كل المعوقات والقيود التى تفرضها المؤسسات المصرفية المصرية على إيداع وسحب الدولار، على نحو يجعل من القطاع المصرفى الرسمى جاذبًا لمن يريد تغيير العملة، خاصة أن هناك شريحة ليست بالقليلة من المواطنين ما زالت محتفظة بالدولار، أملًا فى عودة الأسعار للارتفاع إلى مستوياتها السابقة.
خطط لرفع الصادرات إلى 130 مليار دولار.. ومضاعفة الاستثمارات الخاصة
تعتمد خطة الحكومة لزيادة العوائد الدولارية على عدد من المحاور الأساسية، على رأسها زيادة هذه العوائد من الصادرات السلعية، وإيرادات السياحة، وتحويلات المصريين فى الخارج، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وإيرادات قناة السويس، بالإضافة إلى زيادة إيراداتها من التعهيد، وغيرها من الخدمات المرتبطة بالاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
وتعمل الدولة على إعادة بناء احتياطياتها من العملات الأجنبية، وضمان القدرة على سداد الديون الخارجية المستحقة عليها، من خلال العمل فى قطاعات متنوعة وفى مواقع متنوعة، أخذًا فى الاعتبار متطلبات المرحلة المقبلة.
ويتضمن ذلك التكامل مع القطاع الخاص، وتنشيط الطلب على منتجات قطاع الصناعة، وجذب تحويلات العاملين المصريين فى الخارج بكل شرائحهم، واستغلالها فى استثمارات ومنتجات تناسب احتياجاتهم، إلى جانب تنشيط الاستثمار المباشر، واستثمار صناديق الاستثمار والمتعاملين فى البورصة، خاصة فى قطاعات التشييد والعقارات والسياحة.
واعتمدت الدولة على نهج قائم على توفير الاحتياجات الضرورية لجذب الاستثمارات من الخارج، التى تشمل البنية التحتية والمرافق والموانئ والمطارات والطرق والكهرباء، مرورًا بتعديل قوانين وتشريعات الاستثمار، وتقليل البيروقراطية والروتين، وتنفيذ مشروعات مشتركة تضمن توفير التمويلات المطلوبة دون أعباء على الدولة، ما يضمن لها إيرادات مستدامة.
وتركز الخطة على تحديث هيكل الاقتصاد المصرى، من خلال زيادة الاستثمارات الخاصة من إجمالى الاستثمارات إلى ٧٠٪ بحلول عام ٢٠٣٠، مقابل ٢٥.٥٪ فى ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤، فضلًا عن استهداف زيادة قيمة الصادرات المصرية إلى ١٣٠ مليار دولار، ورفع إجمالى الإيرادات السياحية إلى ١٧.١ مليار دولار، وذلك بنهاية ٢٠٢٦/٢٠٢٧، إلى جانب العمل على زيادة تحويلات المصريين فى الخارج بنسبة ١٠٪ سنويًا، لتصل إلى ٥٣ مليار دولار سنويًا بحلول ٢٠٣٠.
وبدأ هذا النهج يحقق أهدافه، من خلال استعادة الثقة فى الاقتصاد المصرى وآفاق وفرص نموه، وحرص بعض المؤسسات الدولية على تأكيد إمكاناته، وتزايد الفرص المتاحة به، ما يعود بالنفع على كل الأطراف، وغيرها من النتائج الأخرى المحققة التى نستعرضها فيما يلى.
ورغم ذلك، تواجه تلك الطموحات تحديات كبيرة على الصعيدين المحلى والعالمى، فى مقدمتها مخاطر استمرار وتفاقم الأزمات الجيوسياسية والإقليمية، التى تؤدى إلى ارتفاع أسعار كل السلع الأساسية عالميًا، مع احتمالية عدم القدرة على توفيرها بالكميات المطلوبة أو بالأسعار المعقولة.
ويؤدى ذلك بدوره إلى ركود فى الاقتصاد العالمى، بسبب عدم توافر مستلزمات الإنتاج والوقود، وزيادة معدلات التضخم بشكل كبير، ما يؤثر على الإنتاج والتجارة العالمية لفترة طويلة الأجل، ما يؤثر بالتبعية على النشاط الاقتصادى المصرى، خاصة القطاع الخارجى، من خلال تدهور الميزان التجارى، وزيادة أسعار الواردات السلعية، بالإضافة إلى حدوث انخفاض ملحوظ فى الإيرادات الدولارية من قناة السويس.
كما أن استمرار أسعار الفائدة عالميًا، خاصة فى الاقتصادات المتقدمة، لكبح جماح معدلات التضخم المرتفعة، وابتعادها عن مستهدفات البنوك المركزية، قد يؤدى إلى حدوث المزيد من الاضطرابات، وركود نشاط الاقتصاد والتجارة العالمية وأسواق المال العالمية، بالإضافة إلى استمرار السياسة التقييدية للبنوك المركزية، الذى يؤدى إلى حدوث ركود اقتصادى عالمى.
كما تهدد الأزمة الحالية فى منطقة البحر الأحمر بحدوث مزيد من الاضطرابات فى سلاسل التوريد وحركة التجارة العالمية، ما سيكون له تأثير ملحوظ وحتمى على القطاعات الاستراتيجية والإنتاجية العالمية، ويؤدى إلى تدهور المؤشرات الاقتصادية على المديين القصير ومتوسط الأجل، خاصة أن هذه الاضطرابات ستؤدى إلى زيادة فى معدلات التضخم، واستمرار السياسات النقدية التقييدية عالميًا، ما سيكون له أثر فى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى.