رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوطنية الزائفة.. فى الكيان المزيف

ليس هناك أجمل من كلمة «وطن»، وليس هناك أروع من كلمة «حضن» المُلازمة لكلمة أم.. يتقاطع مفهوم الوطن مع مفهوم الأم؛ فكلاهما يمثلان الرحم الدموى ومكان ولادة الإنسان ونموه وتطوره، هذا الرحم الأبدى دائم الخصب والعطاء والتجدد.. وهناك حبل سرى دموى يربط بين الوطن وأبنائه، فلا يستطيعون البعد عن وطنهم، تمامًا مثل السمكة، تموت حين تفارق الماء، ولا يمكننا نحن البشر أن نعيش بلا وطن وهوية وعنوان وتاريخ وأصل.. والمواطنة إطار يستوعب الجميع، فهو يحافظ على حقوق الأقلية والأكثرية فى نطاق مفهوم المواطنة الجامعة، وهى المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الصبغات الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية أو الجنسية، فكل مواطن له جميع الحقوق وعليه جميع الواجبات.. والمواطنة الحقيقية لا تتجاهل حقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية فى الوطن، ولا تحدث تغييرًا فى نسب مكوناتها، ولا تمارس تزييفًا للواقع.. هذا ما نعيشه فى مصر، ويفتقده الكيان الصهيونى المحتل لفلسطين.
فرغم تفاقم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يقطع المئات من جنود الاحتياط فى الجيش الإسرائيلى خدمتهم العسكرية ويسافرون إلى الخارج دون إبلاغ قادتهم، رغم أنهم خاضعون للاستدعاء بشكل طارئ لخدمة الاحتياط، فى ظاهرة تتسع بين الجنود خلال فترة الخدمة النشطة.. وكشف موقع «كالكاليست» الإسرائيلى، أنه خلال الأسابيع الأخيرة، ظهر الإرهاق المتزايد بين الجنود الذين يخدمون فى الاحتياط، الذين راكم بعضهم بالفعل حوالى مائتى يوم احتياط، منذ بداية الحرب على غزة، مؤكدًا أن لديه أسماء جنود غادروا إلى الخارج خلال خدمتهم العسكرية، ولم يعلم قادتهم بذلك إلا بعد خروجهم من إسرائيل.
قبل ذلك بشهر واحد، هدد جندى إسرائيلى يخدم فى قطاع غزة بتمرد عسكرى واسع، فى حال قرر وزير الدفاع يوآف جالانت الانسحاب من القطاع، إذ ظهر جندى احتياط ملثّم داخل ما بدا أنه منزل مهدم بقطاع غزة، ومن خلفه شعارات مكتوبة بالعبرية لحركة «كاخ» المتطرفة، المُصنفة إرهابية فى إسرائيل، وفق صحيفة معاريف الإسرائيلية، وقال: «لن أسلم أنا ومائة ألف جندى احتياط مفاتيح غزة للسلطة الفلسطينية أو فتح أو حماس أو أى كيان عربى».. مطالبًا وزير الدفاع بالاستقالة: «لا يمكنك الانتصار فى الحرب، ولا يمكنك أن تقودنا أو أن تصدر لنا الأوامر».
ليس ذلك فحسب، إذ قبل عام من الآن، وفى رسالة إلى المُشرعين ورئيس أركان الجيش وقائد القوات الجوية، هدد جنود من الاحتياط فى سلاح الجو الإسرائيلي، بالامتناع عن التطوع للخدمة العسكرية، إذا مضت الحكومة قدمًا فى التعديل القضائى «التشريع الذى يسمح للحكومة بالتصرف بطريقة غير معقولة بشدة، مما يضر بأمن إسرائيل، ويؤدى إلى فقدان الثقة وينتهك موافقتى على الاستمرار فى المغامرة بحياتى، وسيؤدى، ببالغ الأسى ومن دون خيار آخر، إلى تعليق واجبى التطوعى فى الخدمة ضمن قوات الاحتياط».
أما قبل أيام، اقتحم مئات المتطرفين الإسرائيليين من تيار أقصى اليمين معسكر الاعتقال، فى قاعدة سدى تيمان العسكرية بصحراء النقب، حيث يحتجز الجيش الإسرائيلى والأجهزة الأمنية أسرى من قطاع غزة منذ بداية الحرب، بعد أن أوقفت الشرطة العسكرية تسعة من جنود الاحتياط، للتحقيق معهم بشبهة الاعتداء جنسيًا والتعذيب والتنكيل بعديد من هؤلاء الأسرى.. ومكث المقتحمون داخل القاعدة لبعض الوقت، حيث ساندهم فى الاقتحام والاحتجاج عشرات من جنود الاحتياط، ملثمين ومسلحين، وحمل بعضهم شعار «القوة 100» على زيهم العسكرى.. ووقعت صدامات بين ضباط الشرطة العسكرية من جهة، وجنود الاحتياط وناشطى أقصى اليمين من جهة أخرى، حيث حاولوا منع احتجاز الجنود المتهمين.. وغيره كثير، مما دفع قادة إسرائيل العسكريين إلى القول إن «الأعداء» قد يستغلون حالة العصيان بين قوات الاحتياط لكى يهاجمونا.. أمن إسرائيل فى خطر، ويمكن لأعدائها أن يستغلوا الأزمة، مع زيادة أعداد الجنود الذين قرروا التوقف عن الخدمة للتعبير عن معارضتهم.. كما أقر الجيش الإسرائيلى بأن زيادة طلبات الامتناع عن تأدية الخدمة من قوات الاحتياط يضر تدريجيًا بالاستعدادات للحرب.
هذا يدفعنى إلى القول إن «الانتماء» للوطن يعد أقوى ارتباطًا بالأرض والوطن والهوية، لكونه يترسخ فى جذور الجغرافيا والتاريخ والبيئة، إلا أن «الولاء» للوطن هو الرابط الرئيس الذى يتحقق من خلال الاختيار والرضا والإخلاص غير المشروط.. لذا، فإن الانتماء إلى الوطن لا يشكل بالضرورة دليلًا على الولاء له.. فاقتناء بطاقة الهوية لا يعنى أن حاملها قد تولدت عنده ثقافة الترابط، أو قد نشأ عقد بينه وبين وطنه لا تزول بنوده، بحكم المصلحة أو الظروف، مهما كانت.. لذلك فمعيار الالتزام بالولاء للوطن يكون فى السلوك الذى يترجم مشاعر الاعتزاز بالانتماء، ويصل إلى حد القبول بمقومات التضحية فى سبيل حماية استقرار الوطن، وصون كرامته، والذود عن سيادته.. وإسرائيل ليست هذا الوطن الذى نتحدث عنه، بالنسبة لمن يعيشون فيها من أشتات الأرض.
«ليست الوطنية إلا اختراعًا أوجدته بعض الحكومات لكى يحارب الجنود بالمجان».. دعونا نتوقف لحظة عند هذه المقولة الشهيرة لجابرييل جارسيا ماركيز، الروائى الكولومبى الشهير والحائز على جائزة نوبل فى الأدب.. وقبل أن نفكك المقولة ونتناول أبعادها ودلالاتها، التى نريد إسقاطها على الكيان الوهمى، إسرائيل، الذى يعيث فسادًا متعدد الأشكال فى أرض غزة، حيث تجاوز التقتيل والتجويع والإرهاب والإذلال، إلى الإبادة الشاملة والكاملة للبشر والشجر والحجر، لا بد أن نذكر أن جابرييل جارسيا ماركيز لم يكن فقط أديبًا عظيمًا، بل كان أيضًا صوتًا جريئًا فى السياسة والعدالة الاجتماعية.
فى هذه المقولة الصارخة فى وجه الظلم، يُعبر ماركيز عن نظرة نقدية تجاه الوطنية الزائفة، معتبرًا أنها ليست سوى اختراع من بعض الحكومات، لجعل الجنود يقاتلون مجانًا. وهذا ما ينطبق مائة بالمائة على الكيان الوهمى الذى لن يكون أبدًا وطنًا لعديمى الأصل، كما يسميهم الكاتب المغربى، مهدى عامر، لأنه ليس سوى قاعدة عسكرية أمريكية فى الشرق الأوسط لحفنة من المرتزقة، يُخيَّل إليهم أنهم يقاتلون لمصلحة الوطن، لكنهم فى الواقع يقاتلون بالمجان ولمصلحة مُستفيد واحد ووحيد، هو الولايات المتحدة.
إن القتال لأجل الوطن أعظم شرف يمكن أن يناله الإنسان، لكن بشرط أن يكون الوطن وطنًا بالفعل وليس أرضًا مسروقة أو مُغتصبة، ممن جاءوا من كل بقاع الأرض، لا يربط بينهم إلا رباط المصلحة.. إن مقولة ماركيز تثير الكثير من التساؤلات حول مفهوم الوطنية وأهدافها الحقيقية.. وقد عاش ماركيز فى فترة شهدت العديد من الصراعات والحروب الأهلية فى أمريكا اللاتينية، وكان شاهدًا على تأثير تلك الصراعات على الناس البسطاء؛ ولعل رؤيته للوطنية تأتى من معاناة الشعوب واستغلال بعض الحكومات لهذه المشاعر لتحقيق مصالحها.
الطرح ليس بجديد.. فقد سبق ماركيز العديد من الأدباء والفلاسفة الذين ناقشوا موضوع الحرب والسلام والوطنية من زوايا مختلفة.. لو كان ألبير كامو حيًّا يرزق، وهو الفيلسوف والكاتب الفرنسى، الذى كان من أشد النقاد للحروب والصراعات، لاعتبر حرب الكيان الوهمى الغاشم على أرض العزة طاعونًا لا يضرب فقط الشرق الأوسط، لكنه يجتاح البشرية جمعاء.. وكان ألبير كامو فيلسوفًا لامعًا عالميًا ومؤثرًا، لكنه كان مُلحدًا.. وإذا تخيلنا أنه غيَّر فى لحظة ما بعض معتقداته وآمن بالقرآن، لكان استشهد بهذه الآية الكريمة: «لَتُفْسِدُنَّ فِى الْأَرْضِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا» سورة الإسراء ـ الآية 4.. لقد قدم ليو تولستوي، الكاتب الروسى العظيم، فى روايته «الحرب والسلام»، صورة معقدة عن تأثير الحروب على الناس والمجتمعات.. وكان تولستوى يدعو إلى السلام والتفاهم بين الشعوب، ويرى أن الحرب تدمير للإنسانية، وأن أيًا ما كان فى العالم ليس مبررًا كافيًا لإزهاق الأرواح؛ ولو عاد إلى الحياة ورأى بأم عينيه ما يحدث من إبادة رهيبة لشعب غزة، لتوقف قلبه عن النبض لهول ما يحدث.
ثمة فلاسفة آخرون وددنا أن يكونوا شاهدين على إبادة الطغاة لإخواننا فى فلسطين، ومن بينهم جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسى ذائع الصيت، الذى كانت له رؤية فلسفية خاصة تجاه الحروب.. كان يعتقد أن الحرية والمسئولية الفردية هما الأساس.. وفى كتابه «الوجود والعدم»، يوضح كيف يمكن للإنسان أن يختار مساره بحرية، دون أن يكون عبدًا لأى أيديولوجيا.. وإذا ربطنا كلام سارتر بسياق الصراع الحالى بين اللُقطاء والبواسل فى غزة، نرى أن الكيان الوهمى لم يختر طريقه بحرية، وأنه عبد لأيديولوجيا الإبادة الشاملة، لأنه يعرف أن نهايته اقتربت، وهو يريد أن يُفنى البشر والشجر والحجر قبل أن يفنى هو ويندثر، أو كما قال إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق: «نتنياهو يريد حرب نهاية العالم».
إميل زولا، الكاتب الفرنسى الشهير، كان من النقاد البارزين للحروب.. كان يرى أن الوطنية الحقة تتجلى فى الدفاع عن العدالة والحقيقة، ومن المؤكد أنه لو كان بيننا شاهدًا على هذا العصر، لصاح بأعلى صوت «الكيان الوهمى رمز حى للخراب فى الأرض وللباطل والظلم».. إن الوطنية الحقة يجب أن تكون مؤسسة على قيم المصداقية والشرعية والحرية، وليست مجرد وسيلة لتبرير الحروب والصراعات.. وانظر إلى ما يؤكده الرئيس عبدالفتاح السيسي، لتدرك الفرق بين الدولة الحقة والكيان الوهمى، إذ قال الرئيس: «الجيش المصرى، بقوته ومكانته وقدرته وكفاءته، هدفه حماية حدود مصر وأمنها القومى دون تجاوز.. من المهم استخدام القوة برشد وتعقل وحكمة دون طغيان.. إننا نتعامل مع كل الأزمات بعقل وصبر، لتحقيق ما أمكن دون تجاوز فى استخدام القوة».
** وبعد..
سألوا الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش: ما هو الوطن؟.. قال، إنه ليس سؤالًا تجيب عليه وتمضى.. إنه حياتك وقضيتك معًا.. هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض.. ليس الوطن أرضًا.. ولكنه الأرض والحق معًا.. الحق معك، والأرض معهم!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.