أهمية أن نتذكر يوسف إدريس.. يا ناس
قبل رحيل يوسف إدريس فى ١ أغسطس ١٩٩١، أبدع حكاية تكمل مشروعه القصصى الفريد الذى ألهم الشعراء قبل كتّاب الحكايات، أفاق من غيبوبته قبل الأخيرة فى لندن وحكى لابنته، كما كتب صلاح منتصر وقتها فى الأهرام، أنه بعد أن تعافى من أزمته الصحية حلم أنه عاد إلى مصر، وكان هو الذى يقود الطائرة، وحين وصل إلى ميدان الدقى فوجئ بأن خزانات المياه على العمارات تعوق هبوطه، وقال إنه عقب عودته إلى القاهرة سيقوم بعمل حملة فى الصحف لإزالة هذه الخزانات، لكى تتمكن الطائرات التى نقودها ونحن نحلم، من الهبوط. كانت الدبابات الأمريكية قد أخذت مكانها فى المنطقة بعد تدمير العراق، وكان شراء الذمم مزدهرًا، قطاع كبير من اليساريين انضم إلى المشهد الجديد، وبدأ موسم توزيع المناصب والمجلات والمنح على الذين روجوا لضرورة التدخل الأمريكى، بسبب غباء وعنجهية وطمع صدام حسين، كانت بداية سقوط أصنام البلاغة فى الثقافة العربية، الشعراء الذين تغنوا بالقومية العربية وفلسطين توقفوا، وانضموا إلى التنوير النخبوى، كانت أيامًا ثقيلة لم يحتملها قلب صاحب «أرخص ليالى»، الموهوب الذى نقل الكتابة وأعلى من شأن المشاعر المنسية، كان يرى أن الثقافة هى المعرفة الممزوجة بالكرامة، فلو كانت الثقافة تعنى المعرفة فقط لما اهتاجت السلطة، فماذا يهمها من سابلة الثقافة ورعاعها، إنما الذى يصنع الأزمة الدائمة هى الثقافة ذات الكرامة.. لها إشعاعها الخاص، تلمحه فى بريق العيون ووضاءة الجبهة وجلال العقل ونصاعة الموقف، كانت ليالى مقبضة استدعاها ما يحدث لأشقائنا فى فلسطين المحتلة منذ تسعة أشهر، وأيضًا التكالب على المزايا التى يمنحها بعض الأشقاء لتجريف النبع الصافى الذى شرب منه رموزنا الذين صنعوا ذاكرتنا وهيبتنا، سنة ١٩٨٤ كتب فى الأهرام، تحت عنوان «أهمية أن نتثقف يا ناس»، أننا «سوف نتحول إلى مجتمع جاهل، وإن كان بعضه بالشهادة متعلمًا، مجتمع غير واعٍ أو مدرك، أى غير مثقف. مجتمع ليست له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم، وتدافع عنها، وتدعو إليها. مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلامًا وخمولًا من السماء الملبدة بالغيوم»، كان وزير الثقافة أيامها عبدالحميد رضوان لم يعجبه كلام ملك القطن، فرد بمقال «مصريتنا حماها الله» هاجم فيه إدريس الذى كان يريد فقط أن ينبه إلى خطورة تهميش الثقافة والمثقفين والسخرية منهم إرضاءً للذوق السوقى الشعبوى الذى تسبب فيه الانفتاح الاقتصادى الذى بدأ فى السبعينيات، كان يريد أن يلفت نظر السلطة إلى مؤامرة ما تحاك ضد العقل المصرى، كتب أن المصريين «شعب يُقدس المعرفة والثقافة، وهو شعب متحضر وعميق الصلة بالقيم الثقافية والحضارية العليا، وأكبر دليل على ذلك المكانة الكبيرة التى رفع لها المصريون مهنة الكاتب، وشخصيات فكرية وثقافية مثل طه حسين والعقاد، وأحمد حسن الزيات، والمازنى، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزى، وأحمد أمين، ونجيب محفوظ، وزكى نجيب محمود، وغيرهم من المفكرين والأدباء»، لقد بدأ الاستهزاء والتقليل من شأن المثقف قبل أربعة عقود أو يزيد، وكان صاحب «الحرام» أول من نبّه إلى خطورة هذا التحول، وقال إن هذا التربص جاء بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، التى دفعت بقطاع عريض من أبناء «الطبقة الوسطى البسيطة» إلى صدارة المشهد الثقافى والسياسى، بعد أن كانت مهمشة قبل ذلك، لأنها وفرت لهؤلاء فرص التعليم المجانى، وفتحت لهم أوسع المجالات للكسب المادى والصعود الطبقى، لم توفر لهم الثقافة الحقيقية التى تصنع منهم كائنات إنسانية متحضرة منظمة، تجمع بين الرقى الاجتماعى والاقتصادى والرقى الإنسانى والسلوكى والفكرى، كان يرى أن مرحلة الانفتاح حُلت فيها «صواميل» المجتمع، وفُتح الباب لـ«ثقافة الفهلوة»، وصارت «روح الشعب الثقافية» رهينة فى أيدى القطاع الخاص، الذى حول المسرح إلى كباريه، وتحولت الجامعات من دور للثقافة العليا إلى مدارس متوسطة يتخرج فيها أنصاف حرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس، لم يكن فى مقاله يلعب دور المعارض المعادى للسلطة، ولكنه كان يريد أن ينبه إلى خطورة تهميش دور المثقف فى بلد تستطيع فيه الثقافة حماية المجتمع من التطرف والتمييز والعنصرية، ويرى أيضًا أن الدولة قادرة على تصويب الأمور، وقال «نعم لدينا إمكانات كثيرة مثل مؤسسات الثقافة والإعلام الحكومى، على رأسها التليفزيون والإذاعة والصحافة والمسارح والمطابع والهيئة العامة للكتاب والمجلس الأعلى للثقافة»، وأضاف، وهذا كلام كتب قبل أربعين عامًا «لكن هذه الإمكانات مُهدرة نتيجة شيوع السلبية وانعدام الضمير وقلة القيم، وتفشى الفساد والمحسوبية، والارتجال فى المشروعات والحلول»، يوسف إدريس الموهبة الاستثنائية فى ثقافتنا كان يرى من بعيد خطورة تهميش دور الثقافة فى المجتمع، المجتمع الذى انحاز للضعفاء والمهمشين فيه وهو يكتب الأدب، ودافع عن حقوقه وحريته وهو يكتب فى الصحافة.