اقتصاد يتعافى.. ودولة تنهض من كبوتها
أصحاب النظرة المتفائلة للاقتصاد المصرى، الذين تناولوا أحواله خلال الفترة الماضية، وشرحوا أبعاده ومآلاته، دون غرض أو مرض، رأوا فى النصف الثانى من العام الحالى، انفراجة تُلقى بظلال من الراحة على هذا الاقتصاد، الذى عانى آثار أزمات طاحنة، بدأت مع تفشى وباء كورونا فى العالم، وعطّلت مسيرة الاقتصادات العالمية، حتى فى الدول الغنية والمتقدمة، ثم أعقبت كورونا، الأزمة الروسية الأوكرانية، وتعطل سلاسل الإمداد بين الدول وارتفاع معدلات التضخم، وانتهت بما هو قائم فى الشرق الأوسط، من حرب إسرائيلية غاشمة على قطاع غزة، واشتعال نيران الحرب الأهلية فى السودان، واضطراب الأوضاع فى ليبيا، وترصُّد جماعة الحوثى اليمنية بسفن التجارة العالمية فى البحر الأحمر، وتأثير ذلك على المرور فى قناة السويس، التى انخفضت عائداتها إلى مستويات خطيرة، ألقت بآثارها القاتمة على الاقتصاد المصرى، وانفجار أزمة دولار غير مسبوقة فى مصر، ساعد فى تفاقمها، سوق سوداء، التهمت جزءًا كبيرًا من تحويلات المصريين فى الخارج، استحوذ عليها أذناب أهل الشر، الذين يقيمون فى منطقة الخليج، ودول أخرى حول العالم.
وكما هى مصر دائمًا، تمرض لكنها لا تموت، تتعثر لكنها لا تقع.. انتفضت من كبوتها، وغيرت فى خارطة طريقها الاقتصادية، مستعينة بمجموعة وزارية جديدة، بفكر مُغاير لما كان عليه الحال فيما سبق، لأن التغيير سمة الإصلاح، ووسيلة من وسائل تحقيقه.. وبدأت بشائر الخير تترى، إذ أعلن البنك المركزى المصرى، أن الدين الخارجى يتراجع من مستوياته المرتفعة، ليسجل «أكبر تراجع تاريخى، بقيمة تتجاوز أربعة عشر مليار دولار منذ ديسمبر الماضى».. وتراجع الدين الخارجى فى مايو، إلى 153.86 مليار دولار، بانخفاض قدره 8.43%، أى بنحو 14.17 مليار دولار، عن مستواه فى نهاية العام الماضى، الذى بلغ 168.03 مليار دولار.. هذا التحسن فى مستويات الدين الخارجى يأتى فى حين يزيد الاحتياطى النقدى الأجنبى إلى مستويات قياسية «الاحتياطى الأجنبى يتفوق على مستويات الأمان الدولية، ويسجل أعلى مستوى على الإطلاق بقيمة 46.38 مليار دولار».. ويغطى مستوى الاحتياطى النقدى الحالى، الواردات السلعية لمدة 7.9 شهر، مع أن المعدلات العالمية تقف عند حدود ستة أشهر فقط.
ارتفع صافى الاحتياطات الأجنبية فى يونيو، إلى 46.38 مليار دولار، وهو مستوى قياسى.. ونجحت سياسة البنك المركزى المصرى فى القضاء على عجز صافى الأصول الأجنبية، لتسجل فائضًا بـ10.3 مليار دولار بنهاية يونيو الماضى، مقابل عجز 11.4 مليار دولار فى يناير.. هذا التحسن ساهم فى تقليل العوائد على سندات مصر الدولارية، بشكل كبير، إذ تراجعت بنحو 13% منذ أكتوبر الماضى، بعد أن ارتفع الطلب من المستثمرين الأجانب على أدوات الدين المصرية.. كذلك نجحت سياسة البنك فى «تراجع عقود مخاطر الائتمان لمدة عام، بأكثر من 2300 نقطة أساس، منذ مايو 2023».. بالإضافة إلى «زيادة 200% فى موارد النقد الأجنبى للسوق المحلية، وارتفاع تحويلات المصريين بأكثر من 100%، منذ تحرير سعر الصرف».
علينا أولًا، أن نضع خطًا فاصلًا، بين أداء حكومة سابقة وواقع صعب عشناه، وبين مشكلة قد حُلت وأزمة اقتصادية قد أوشكت على الانتهاء.. ذلك لأن هناك تغييرات كثيرة تحدث على الأرض، نتيجة لواقع عالمى وأوضاع تتغير.. ولعلنا نعود إلى ما قاله المتفائلون، من أن أزمة مصر الاقتصادية ستنتهى بنهاية العام الحالى.. صحيح أن الغالبية لم تشعر، حتى الآن، بأى آثار إيجابية، لأن ذلك يحتاج وقتًا ليلقى بثمارة، لكنه آتٍ لا محالة.. هذا التأثير يمكن قياسه نسبيًا من إجابة كل منا على السؤال: هل تزداد حياتك المعيشية الصعبة صعوبة، أم أنها باتت مُستقرة عند درجة معاناتك السابقة؟.. كذلك، تعالوا لقراءة دلالات الأرقام التى ذكرناها فى صدارة هذا المقال.
انخفض الدين المصرى الخارجى إلى ما يزيد على 8%، وهو انخفاض ضحم.. وحدث تحسن هائل فى منحنى العائد على السندات المصرية، ومعنى ذلك، أن الفائدة التى كانت تدفعها مصر مقابل هذه السندات، انخفضت من أكثر من 22% خلال العام الماضى، إلى 9.2% فى يونيو، أى بنسبة 13%، وهذا دليل على تعافى الاقتصاد المصرى، إذ مع صعوبة الأزمة خلال الفترة الماضية، وارتفاع التضخم، ورفع البنك الفيدرالى الأمريكى لمعدلات الفائدة على ودائعه، كانت مصر ترفع بدورها معدلات الفائدة على السندات، وهذا أرهق الدولة المصرية، للحفاظ على مكتسباتها الدولارية.. وفى انتظار، انخفاض معدلات الفائدة على الإيداع والإقراض فى البنوك المصرية، خلال الفترة القادمة، لأن هذا يفتح المجال أمام المستثمرين والتجار والمُصنعين، للحصول على قروض بفائدة معقولة، وهذا يُنعش الاقتصاد ويُحرك السوق.
نحن نسير فى الاتجاه الصحيح.. وصل صافى الاحتياطيات الأجبية بالبنك المركزى المصرى إلى أعلى مستوى له، بزيادة ثلاثة عشر مليار دولار عن أغسطس الماضى، وهذا معناه، أن مصر تملك حاليًا احتياطيًا نقديًا، يكفى ثمانية شهور من احتياجاتها الدولارية، وأنه لا أزمة قد تدفع قيمة الجنية نحو الانخفاض، بل إنه يذهب باتجاه الاستقرار لسنوات قادمة، وفى ذلك أمان للمواطن، فى ماله واستثماراته، وكذلك الأجنبى.. حدث نمو هائل فى تدفقات النقد الأجنبى باتجاه السوق المحلية بواقع 200%، من زيادة تحويلات المصريين فى الخارج عن طريق البنوك، بنسبة 100%، كنتيجة مباشرة لاستقرار سعر صرف الدولار، وثبات قيمة الجنيه.. تم القضاء على عجز الأصول الأجنبية فى البنك المركزى، وسجلت فائضًا بقيمة عشرة مليارات وثلاثمائة مليون دولار فى يونيو، مقارنة بعجز بلغ 11.5 مليار دولار فى يناير الماضى.. حولنا العجز إلى فائض، قضينا على السوق السوداء، وتم تأمين سعر الجنيه ضد مواجهة مشكلة مستقبلية.. ومن حسن طالع مصر، ما أعلنه نائب رئيس البنك الفيدرالى الأمريكى، عن تخفيض الفائدة على ودائعه لثلاث مرات، حتى نهاية هذا العام، وهذا كفيل بورود كميات ضخمة من الدورلارات إلى السوق المصرفى المصرى، ليكتمل تعافى الاقتصاد المصرى، الذى قال عنه أحد كبار رجال الأعمال المصريين، «هذا أوان الاستثمار فى مصر».
إننى مع ما ذهب إليه الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية، ووزير النقل والاقتصاد، من أننا قادرون على صناعة الدولار فى مصر، خلال المرحلة القادمة، بزيادة الصادرات وتقليل الواردات، واكتفاء السوق المصرية بالصناعات المحلية دون الأجنبية.. وإذا كانت الصناعة تمثل جزءًا صغيرًا من قيمة الاقتصاد، فى أى دولة، فإن ثورة التكنولوجيا واقتصاد الخدمات فى الموانئ والمطارات والسكك الحديدية، والسياحة والسينما والمهرجانات والمؤتمرات وغيرها، تمثل عمود الخيمة فى أى اقتصاد، عندما تجعل من الإيرادات قوة مالية ضخمة، تفوق المصروفات بفارق كبير.. ولمن لا يعلم، فإن أمريكا تعانى من عجز فى ميزانها التجارى، تستورد أكبر بكثير مما تُصدره، ومع هذا فإن اقتصادها ضخم وغنى، وعملتها هى الأقوى فى العالم، لأنها تعتمد على اقتصاد الخدمات.. ونحن الآن فى حاجة إلى التركيز على هذا النوع من الاقتصاد، ومصر لم يعد يعوزها بنية تحتية لتحقيق ذلك، بما نفذته من مشروعات قومية عملاقة، خلال السنوات الماضية.
■■ وبعد..
فمن الإنصاف أن نرد الفضل لأهله.. السبب الجوهرى فى استقرار سعر الجنيه، يعود إلى أن البنك المركزى المصرى ولأول مرة يعمل بفكره الخاص دون تدخل من وزير المالية كما حدث فى السابق فى السياسة النقدية المصرية، وبعيدًا عن سياسة الحكومة.. ولذا نجح فى تخفيض قيمة الدين الخارجى، بانتهاجه فقه الأولويات.. وسيطر على السوق السوداء، التى تنشأ بشكل آلى، كما يعرف المتخصصون، عندما لا تتوفر السيولة الدولارية المطلوبة لاحتياجات الدولة.. والدولة القوية، هى من تملك زمام السوق لتقوده، وليس العكس، بمسايرتها آليات هذا السوق ومتطلباته دون معاندة أو مكابرة.. ولدينا الآن محافظ للبنك المركزى، قليل الكلام، عميق التفكير.. أعلن منذ مجيئه، أن حربه ستكون من أجل زيادة الاحتياطى النقدى للدولة، وقد وصل الآن إلى أكثر من سبعة وأربعين مليار دولار، وما زال الخير يأتى.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.