رائحة الأبطال «السمسمية» تواجه عصر «انتش واجرى»
فى حديقة المسرح العائم يخرج الممثلون حاملين دمية ضخمة محشوة بالقش مستلهمين الطقس الشعبى البورسعيدى لحرق عروسة اللمبى، وهو طقس استحدثه أهالى بورسعيد ليلة شم النسيم فى يوم وداع اللورد إدموند هنرى ألنبى، المندوب السامى لمصر والسودان خلال الفترة من ١٩١٩ حتى ١٩٢٥، تعبيرًا عن غضبهم، حيث صنعوا له دمية ضخمة، وكان إدموند ضخم البنية، وأحرقوها وهم يغنون: «يا ألنبى يا وش النملة مين قلك تعمل دى العملة.. يا ألنبى يا ابن حلمبوحة مين قلك تتجوز توحة»، وعبر انزياح اللغة صارت «ألنبى» «اللمبى»، وتطور الطقس حتى صارت الدمية تمثل كل الشخصيات السيئة وكل القيم السيئة التى يرفضها أهالى بورسعيد فيحتفلون بحرقها ليلة شم النسيم من كل عام.
ويعود سر كراهية أهالى بورسعيد للورد إدموند ألنبى بسبب بطشه حين أمر بفتح النار على أهالى بورسعيد لمنعهم من وداع الزعيم سعد زغلول وزملائه عقب القبض عليهم وترحيلهم من ميناء بورسعيد، وكذلك حين اندلعت مظاهرات ثورة ١٩١٩ فى بورسعيد التى اتحد فيها الهلال والصليب أمر بفتح النار وأسقط العديد من الشهداء واختلطت دماء المسلم والمسيحى، فلم يتوصل الخيال المصرى الخلاق لانتقام سنوى أبشع من هذا. ولنتأمل سويًا كيف يستلهم المصريون الفن فى المقاومة وأهالى مدن القناة عمومًا نموذجًا «تصميم وتنفيذ عروسة وارتجال أغنية لمقاومة الغازى والعدو- فرق السمسمية والطنبورة والأغانى الوطنية الحماسية.. إلخ» لنرى امتداد ذلك فى عرض «السمسمية»، كتابة وإخراج سعيد سليمان، إنتاج فرقة المواجهة والتجوال، ضمن مبادرة «عاش هنا» التى تلقى الضوء على أبطال ورموز مصر فى مختلف المجالات فى كل ربوع مصر.
وفى عرض السمسمية يستلهم الممثلون طقس ألنبى ليكون مدخلًا ذكيًا ليحكى لنا فنانو العرض عبره بطولات المقاومة الرسمية والشعبية فى مدن القناة، وقد تنبه سعيد سليمان فى رؤيته إلى مواجهة استعمار جديد ونمط من الحروب جديدة «حروب الجيل السادس»، حيث صار الاستعمار الفكرى والثقافى هما الأكثر خطورة، واستنزاف ثرواتنا البشرية وشبابنا عبر إلهائهم بالغث والتافه وتحويلهم إلى كائنات ثقيلة كسولة تهدر قيمة العمل وتميل إلى الركون مرصصة أمام شاشات الموبايل والتلفاز وعلى مقاعد المقاهى والكافيهات، فكيف تحول الكسل والتخاذل والإلهاء وابتذال الذات إلى كائن بمثل ضخامة الدمية؟.. ويطرح العرض رؤيته تلك الإشكالية، كيف نستطيع التخلص من تلك القيم السيئة واستعادة أرواحنا.. يحمل الممثلون الدمية ونتبعهم إلى المسرح، حيث يقررون التروى فى إشعال النار وأن يحكوا لنا، ولهذا الكائن، حكايات عن بطولات آبائنا وأجدادنا فلربما تلهمنا تلك الحكايات ونعيد النظر فى الحاضر والمستقبل بنظارة التاريخ، فما الذى قدمه العرض لنا؟.
قوات الشرطة بالإسماعيلية 25 يناير 1952
أولى البطولات التى يرويها فنانو العرض صمود قوات الشرطة المصرية بالإسماعيلية فى ٢٥ يناير ١٩٥٢ حين رفضوا تسليم أسلحتهم وإخلاء مبنى المحافظة للقوات البريطانية واستبسلوا فى الدفاع عن شرف السلاح والذود عن كرامتهم، حيث سقط ٥٠ شرطيًا مصريًا شهيدًا، وأصيب ٨٠ آخرون، وأصبح يوم ٢٥ يناير من كل عام عيدًا للشرطة المصرية.
زينب الكفراوى
كانت بنت ١٧ عامًا وهى تدور بصندوق خشبى فى بورسعيد لتجمع تبرعات للجيش المصرى وتسليحه فى فترة العدوان الثلاثى.. كما كانت تساعد المقاومة فى توزيع المنشورات وكانت تتمرن معهم على الأعمال القتالية.
عبدالمنعم قناوى.. صقر السويس
لُقب بهذا الاسم لأن مهمته كانت مراقبة فرق جيش العدو وكان يتمركز على جبل عتاقة بصحبة دليل عرباوى وجهاز إشارة لاسلكى، ورغم نفاد مؤونته فإنه استكمل مهمته ونجح فى تحذير الجيش الثالث من ضربة محققة من طيران العدو.
آمنة دهشان
بائعة الخضار التى ساعدت أبطال المقاومة فى سرقة أسلحة جنود الإنجليز وإخفائها فى عربة الخضار وتوصيلها للمقاومة.
الشهيد الجندى الشاب سعيد
رفض وقت العدوان الثلاثى الاحتماء فى القنصلية الإيطالية ببورسعيد التى كان مكلفًا بحمايتها رغم إلحاح القنصل عليه حتى يصير آمنًا وأصر على أداء واجبه لآخر وقت حتى استُشهد بعد تبادل للطلقات النارية مع العدو.
علية الشطوى
كانت علية طالبة بالمعهد الراقى للمشرفات الصحيات بالقاهرة ولما أعلن الرئيس جمال عبدالناصر عن حالة الحرب أغلقت المعاهد وعادت علية لبورسعيد وتطوعت فى المستشفى العسكرى، وبرغم رفض والدها فإنها أصرت على القيام بواجبها فى إنقاذ الجنود وأفراد المقاومة الشعبية وعرّضت حياتها للخطر فى مرات عدة.
الكابتن غزالى.. المقاومة بالفن
بطل المقاومة الشعبية فى السويس سخّر قوته كمصارع من أجل حماية وطنه حين انضم، وهو لم يكمل ١٩ عامًا، للفدائيين الذين قاوموا الإنجليز واتخذوا كفر أحمد عبده بالسويس مخبأ لهم حتى دكه الإنجليز فى ٨ ديسمبر١٩٥١، وقد ظل فى حركة الفدائيين حتى ١٩٥٦ فى العدوان الثلاثى ونفذ غزالى العديد من العمليات معهم، ثم كرس مواهبه المتعددة فى حب الوطن ليلتضم فى خلطة غريبة الرسم بالغناء بالمصارعة بالشعر بالجمباز بالقتال بالعمل العام، جنبًا إلى جنب، وينتج تجربة ملهمة ستظل على مر الأجيال تلهم شباب هذا الوطن، ومن منا ينسى أغنيته الشهيرة التى كتبها ولحنها الغزالى: فات الكتير يا بلدنا ما بقاش إلا القليل.. ما بقاش إلا القليل.
كل تلك البطولات يقدمها لنا مخرج العرض سعيد سليمان فى قالب طقسى شعبى كما يفضل فى معظم عروضه، إلا أن الطقسية هذه المرة كانت متصلة اتصالًا عضويًا بموضوع وتيمة العرض، فقد استلهم عرض السمسمية الطقوس الشعبية ممزوجة بالرقص البمبوطى بأغانى السمسمية والطنبورة بالحكى، مستخدمًا ديكورًا بسيطًا مكونًا من عدد من «الاستاندات» التى ألصقت عليها أوراق الصحف والكتب وكأنها أبواب التاريخ سطرت أسماءهم بحروف من ذهب، وإكسسوارات بسيطة تساعد الممثل فى الانتقال من شخصية لشخصية. استعان المخرج بعدد من الممثلين متعددى المواهب: آسر على بصوته الأخاذ، وسالى النمس وإيمان مسامح وأحمد جمال ومريم سعيد وجاكلين سعد وأحمد السيد ومحمد النمس وعبدالرحمن مرسى، وتنقل الممثلون برشاقة من شخصية لشخصية موظفين كل أدواتهم التمثيلية والغنائية. العرض رؤية موسيقية لهيثم درويش وديكور وملابس سماح نبيل، ويعرض الخميس والجمعة من كل أسبوع فى تمام التاسعة مساءً، وأرجو لهذا العرض أن يتجول فى المدارس الإعدادية والثانوية فما أحوج أبنائنا لأن يتعرفوا على تلك الشخصيات ويستلهموا سيرتهم بدلًا من أن يستلهموا سيرة صاحب أغنية «انتش واجرى» الشهيرة.