رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قواعد بناء الجمهورية الجديدة (2)

تواجه مصر فى السنوات الأخيرة تحديًا كبيرًا فى إدارة وتخطيط ملف الأمن المائى، خصوصًا فى ظل المشكلات والمعوقات التى تقف حائلًا أمام تأمين موارد مائية كافية لتلبية احتياجات السكان، والتى دفعت بهذا الملف ليتصدر اهتمامات الدولة المصرية، مواكبةً منها للمتطلبات المحلية الضاغطة والناجمة عن الزيادة السكانية المطردة، فضلًا عن تنامى اتجاهات الدولة فى الملف ذاته لضمان استدامة التنمية، لا سيما وأن الآثار المحتملة للتغيرات المناخية، إلى جانب أن ملء سد النهضة الإثيوبى يُزيد من حدة الأزمة المائية الراهنة.. ونتيجة لتلك التوجهات والتحديات الداخلية والخارجية، وتماشيًا مع الهدف السادس من أهداف التنمية المُستدامة (ضمان توفر الإدارة المستدامة للمياه والصرف الصحى للجميع)، والمُستهدف تحقيقه بحلول 2030، أصبح ملف الأمن المائى واحدًا من الملفات التى حازت على اهتمام صانع القرار، لما لها من تأثيرات وتداعيات جمة على الدولة المصرية فى سائر المجالات الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأن مصر تُعد واحدة من أكثر الدول جفافًا على مستوى العالم.
فى هذا الإطار، صدر عن المنتدى الاستراتيجى للسياسات العامة ودراسات التنمية (دراية)، ورقة بحثية تُسلط الضوء على واقع ومآل ملف الأمن المائى المصرى، من حيث ما يواجه صانع القرار فى ذلك الشأن من تحديات وعقبات، وما آلت إليه المشروعات القومية من نتائج، وما حققته من إنجازات فى تدارك تلك التحديات، وما هو المُستقبل المأمول تحقيقه فى دعم تلك المشروعات وتعظيم نتائجها.
یُؤمن نهر النيل نحو 97% من الاحتیاجات المائیة السنویة لمصر، فى حين تصل نسبة الاعتماد المائی على المصادر الأخرى کالأمطار، والمیاه الجوفیة، وتحلیة میاه الصرف الزراعی والصحی نحو 3%، على عكس معظم الدول المتشاطئة فى الحوض، ما عدا السودان، بنسبة 77%، حيث توجد لدى تلك الدول مصادر أخرى للمياه، من بحيرات عذبة وأنهار، مع كثرة هطول الأمطار، مما یجعلها أقل بکثیر من مصر فى الاعتماد على میاه النیل، الأمر الذى يعنى أن مصالح الأمن القومى المصرى ترتبط بتأمين وحماية الأمن المائى والمتمثل فى مياه نهر النيل.
تُقدر موارد مصر المائية بنحو ستين مليار متر مكعب سنويًا، يأتى حوالى 55.5 مليار متر مكعب من مياه نهر النيل، بالإضافة إلى كميات محدودة للغاية من مياه الأمطار والمياه الجوفية العميقة بالصحارى، تبلغ نحو 4.5 مليار متر مكعب سنويًا، بينما يبلغ حجم الاحتياجات المائية 114 مليار متر مكعب سنويًا، ومن ثم تُقدر الفجوة المائية بنحو 54 مليار متر مكعب سنويًا، يتم تعويضها من خلال إعادة استخدام مياه الصرف الزراعى والصحى وتحلية مياه البحار، بالإضافة لاستيراد منتجات غذائية من الخارج بما يوازى 34 مليار متر مكعب سنويًا من المياه.
ووفقًا لإحصائيات البنك الدولى، المنشورة على موقع وزارة الموارد المائية والرى، فإن نصيب الفرد من المياه فى مصر بلغ 550 متر مكعب فقط من المياه سنويًا عام 2018، وهو ما يمثل تقريبًا نصف خط الفقر المائى العالمى الذى حددته الأمم المتحدة عند ألف متر مكعب للفرد سنويًا، ومن المتوقع أن يصل إلى 330 مترًا مكعبًا سنويًا عام 2050، بما يدفع البلاد نحو مُعدل ضاغط للفقر المائى ويُشكل عائقًا أمام الجهود التنموية، وتحديًا بشأن تنمية الموارد المائية العذبة فى البلاد.. هذا يعنى وجود عجز كبير على مستوى الموارد المائية المصرية، ومن ثم تواجه الدولة عددًا من التحديات التى تزيد من خطورة ملف الأمن المائى المصرى، وتستلزم من صُناع القرار وضع السياسات لتقويضها، بما يحول دون تزايد نسبة الفقر المائى، والوصول إلى معدلات أكثر انخفاضًا من المعدلات الحالية.. ومن أهم التحديات: ارتفاع معدلات النمو السُكانى، إذ يُعد الانفجار السكانى من أهم المُتغيرات التى تفرض ضغطًا متناميًا وتحديات كُبرى بإزاء ملف الأمن المائى، خصوصًا بعدما شهد عدد السكان زيادة كبيرة، وتضاعف خلال سنوات قليلة، لتصبح مصر الدولة الأكثر سكانًا فى العالم العربى وثالث أكثر الدول اكتظاظًا بالسكان فى إفريقيا بعد نيجيريا وإثيوبيا، والدولة الرابعة عشرة على مستوى دول العالم من حيث عدد السكان.. فإذا أضفنا لهؤلاء ما يُقال عن عدد اللاجئين فى مصر، الذى يُقارب الخمسة عشر مليونًا، لأدركنا حجم الكارثة المائية التى تواجهها البلاد.
ويأتى التحدى المناخى فى القلب من التحديات التى تواجه ملف الأمن المائى، ليس فى مصر فحسب، بل فى العالم بأسره، إذ يسهم التدهور البيئى وارتفاع مُعدلات التلوث عالميًا، وانتشار السلوكيات الاستهلاكية غير الرشيدة لموارد المياه المحدودة فى تزايد الضغوط على الموارد المائية محليًا وعالميًا.. ويضغط التحدى المناخى على الموارد المائية المصرية من ناحيتين رئيسيتين، نتيجة كونها دولة مصب فى حوض النيل: التحدى الأول خارجى، يتعلق بدول حوض النيل التى تعانى من تفاقم متزايد للمشكلات البيئية، مثل التصحر والجفاف والتلوث المائى، بالإضافة إلى عدم الاستقرار المناخى الذى قد يتسبب فى تغير فى كميات هطول الأمطار على الهضبة الإثيوبية التى تمثل 85% من موارد مصر من النهر، والهضبة الاستوائية والتى تمثل 15% من الموارد المصرية.. وهناك بعض الدراسات التى تنبأت باحتمالية نقص تدفق المياه إلى نهر النيل بمعدل قد يصل إلى حوالى 60% بسبب التغيرات المناخية.. والتحدى الثانى، هو التحدى الداخلى المتعلق بزيادة الضغط على مصادر المياه وزيادة معدل الاستهلاك، خصوصًا فى الزراعة والصناعة، حيث تزداد الاحتياجات المائية مع ارتفاع درجات الحرارة، إلى جانب حدوث تغير فى كميات وأماكن سقوط الأمطار ومواسمها، فضلًا عن نقص المياه الجوفية بدلتا النيل، نتيجة النقص فى مياه نهر النيل.. كما أن ارتفاع منسوب مياه سطح البحر يؤثر بدوره على دلتا النيل بقوة، سواء فوق الأرض من خلال النحر، أو تحت الأرض بتداخل مياه البحر مع المياه الجوفية والتسبب فى زيادة ملوحتها.
ويُمثل ما تشهده البلاد، منذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى، من مشروعات وطنية عملاقة ونهضة تنموية شاملة، تحديًا ضخمًا بشأن تلبية الموارد المائية لاحتياجات التنمية، وما تتطلبه من إمداد تلك المشروعات الزراعية والصناعية والسكانية بمتطلباتها واحتياجاتها من المياه العذبة، بما ينذر بالأثر السلبى لعجز المياه على مشروعات التنمية وتهديد الفقر المائى للنهضة المصرية.. وقد شكل قرار دولة المنبع الإثيوبية لبناء سد النهضة عام 2011 تحديًا وتهديدًا لحصة مصر التاريخية فى نهر النيل، بالإضافة إلى تأثير السد على انخفاض منسوب بحيرة ناصر، مما سيؤثر سلبًا على معدلات توليد الطاقة من السد العالى، بما سيكون له آثاره الوخيمة على الصناعة والتنمية والاستهلاك السكانى.
من أجل ذلك، بدأت الحكومة المصرية فى السنوات القليلة الماضية، تحركًا جادًا ومواجهة فعالة لملف الأمن المائى، حيث وضعت عددًا من الخطط والسياسات من أجل التنمية المستدامة والاستثمار الفعال فى الموارد المائية وتنميتها.. وبدأت تلك التحركات بالخطة الاستراتيجية لإدارة الموارد المائية حتى عام 2037، بتكلفة مبدئية قُدرت بنحو خمسين مليار دولار قابلة للزيادة بحسب الحاجة، وارتكزت تلك الخطة على العمل الجاد لمواجهة تحديات الأمن المائى المصرى على أربعة محاور رئيسية: الأول، يستهدف تحسين نوعية المياه لتعظيم الاستفادة من المياه العذبة، والثانى، يسعى لتنمية موارد مائية جديدة لتعزيز حصة المواطن من المياه العذبة وتلبية ضغط الاحتياجات المائية المتزايد، أما الثالث، فيتناول ترشيد استخدام الموارد المائية المتاحة، بما يحافظ عليها من الهدر والتلوث ويُقدم توعية للمواطنين بأهمية ملف الأمن المائى، بينما يتعلق الرابع بتطوير منظومة قانونية وتشريعية ومؤسسية، تُمكن من تنفيذ سائر سياسات الأمن المائى المصرى وجميع محاور الخطة المائية بالشكل الأمثل.
وفى إطار تلك الخطة، أطلقت الدولة المصرية عددًا من المشروعات المائية العملاقة، بهدف تعظيم الاستفادة من الموارد المائية المتاحة وتنمية موارد مائية جديدة لزيادة حصة الفرد من المياه العذبة، ومن أهم تلك المشروعات، المشروع القومى لتأهيل الترع الذى يُغطى آلاف الكيلومترات فى ريف مصر عبر قرى ونجوع فى سائر أنحاء الدولة، للحفاظ على كفاءة وكمية المياه المستخدمة فى الرى وتقليل الهادر من المياه، بالإضافة إلى رفع مستوى الترع وتأهيلها لتعظيم الاستفادة من مياه الرى، عبر تطهير الترع ونزع الحشائش وزيادة المساحة المُخصصة للمنفعة العامة وتطوير الجسور.. ويأتى مشروع التحول إلى أنظمة الرى الحديث لترشيد استهلاك المياه العذبة على النحو الأمثل، عبر تطوير المنظومة المائية بالتوسع فى استخدام أساليب الرى الحديثة، من خلال تحسين كفاءة نقل المياه والرى الحقلى، وتحقيق العدالة فى توزيع مياه الرى، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحى بعد معالجتها وخفض معدلات تلوث المياه.. وقد وضعت مصر خطة استراتيجية للتوسع فى إنشاء محطات تحلية مياه البحر، لسد احتياجات مياه الشُرب مقسمة إلى ست خطط خمسية تمتد من عام 2020 حتى عام 2050، بغرض توفير طاقة إجمالية 6.4 مليون متر مكعب يوميًا بتكلفة إجمالية تُقدر بنحو 134 مليار جنيه مصرى.
من أجل الحفاظ على أهم مورد مائى مصرى وتعظيم الاستفادة من مياهه العذبة، تبنت الدولة المصرية مشروع حماية نهر النيل، حيث وقع الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الخامس من يناير 2015 على وثيقة النيل، مُطلقًا حملة قومية لإنقاذ النيل، حيث كُلفت سائر أجهزة الدولة كلها بالعمل المشترك من أجل حماية النهر، من سائر أشكال التعديات ومعاقبة المخالفات بأقصى درجة من الحزم.. ويستهدف مشروع حماية نهر النيل، صيانة مجرى النهر من التلوث والتعديات، عبر تطوير المنشآت وشبكات الترع والمصارف.. كما شمل المشروع إزالة وتطهير ونزع الحشائش من مجرى النهر.. وإيصالًا بهذه النقطة، فقد سعت الدولة المصرية لتقوية علاقاتها وبناء الثقة مع دول حوض نهر النيل، عبر سلسلة من الاستثمارات والمشروعات التنموية الضخمة داخل دول حوض النيل لتحقيق التعاون فى قضايا نهر النيل واستغلال الهدر والفاقد فى أعالى النيل.
من أجل تعظيم الاستفادة من الموارد المائية المتاحة، تبنت الدولة المصرية مشروع تطوير وتجديد شبكات الصرف الزراعى وإعادة استخدامه مرة أخرى بعد معالجته، وقامت بتعظيم الاستفادة من الموارد المائية، عبر الاهتمام بمشروعات القناطر، سواءً عبر تنمية وتجديد وتأمين القناطر القديمة أو بإنشاء قناطر جديدة فى سائر أنحاء البلاد.. كما توجهت السياسة المصرية بمد خدمات مياه الشرب والصرف الصحى فى سائر أنحاء البلاد، وخصوصًا المناطق المهمشة والنائية، فى إطار مبادرة الرئيس السيسى (حياة كريمة)، لتوفير ودعم سُبُل الحياة والرفاهة لسائر أبناء الشعب، وقد شهدت مصر، تحت غطاء تلك المبادرة الرئاسية، زيادة تغطية مياه الشرب الوطنية، وزادت تغطية شبكات الصرف الصحى.

- وبعد..
فإنه، لتعظيم الاستفادة من الموارد المائية المصرية، علينا البحث عن سُبُل التوسع فى البصمة المائية أو المياه الافتراضية، عبر استيراد المحاصيل الزراعية كثيفة الاستهلاك المائى بديلًا عن زراعتها محليًا لتوفير المياه، واستبدالها بزراعة المحاصيل الأقل استهلاكًا للمياه وتصديرها للخارج.. التوسع فى تكثيف الحملات الإعلامية والإعلانية للتوعية بأهمية ترشيد استخدام المياه واتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الإسراف فى استخدام المياه وتطبيق تشريعات ملزمة فى هذا الشأن.. إطلاق حملات بيئية تستهدف التوعية بأهمية الحفاظ على الموارد البيئية المتنوعة، وفى مقدمتها الموارد المائية، لخفض نسب التلوث البيئى والتعديات على مياه النيل، وفرض غرامات رادعة للتعدى على مياه النيل وتلويثه.. رفع ميزانية البحث العلمى الجاد فى الشأن المائى، للبحث فى سُبُل تعظيم الاستفادة من الموارد المائية وترشيد الاستهلاك بطرق فعالة والاستفادة من الخبرات العلمية المماثلة فى تجارب دولية وعالمية، بشأن توفير مصادر مائية بديلة أو خفض تكلفة إنتاج مصادر مائية جديدة. التوسع فى نُظم الرى الحديثة، بما يضمن أقصى ترشيد ممكن للرى وإعادة استخدام مياه الصرف فى الأغراض الزراعية.. رفع درجة التكامل التعاونى فيما بين الهيئات والوزارات المعنية بالشأن المائى، بما يحقق أقصى درجات التنسيق والدعم فيما بينها، ويوفر المعلومات والشفافية لاتخاذ قرارات ذات كفاءة وفاعلية وسرعة، والاستفادة القُصوى من سائر الكفاءات فى الهيئات المختلفة.. دعم الجهود الخاصة باستكشاف المياه الجوفية فى سائر أنحاء البلاد، من خلال رسم خرائط جغرافية دقيقة لسواحل البلاد وصحاريها، وتحديد نوعية المياه وكميتها المتاحة فى كل بقعة جغرافية، والتوسع فى الدراسات التفصيلية للمواقع المأمولة.. دعم العلاقات الثنائية والجماعية فيما بين دول حوض النيل، بما يُسهم فى تعزيز استفادة مصر من نهر النيل، وفتح آفاق للتعاون مع دول الحوض بشأن تعظيم الاستفادة من مياه النهر وتقليل الهدر فى أعاليه، وتحقيق أقصى منفعة من مياه الأمطار والسيول فى دول المنبع.

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.