الحكومة أمام البرلمان
يلقى الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، بيانًا اليوم الإثنين يعرض خلاله برنامج حكومته الجديدة مستهدفًا نيل ثقة النواب على تشكيلته الوزارية. يحضر الوزراء بكامل هيئة الحكومة هذه الجلسة البرلمانية سعيًا لنيل ثقة البرلمان وفقًا للتقرير الذى ستعده لجنة خاصة خلال مدة أقصاها أسبوعان تشكلها هيئة المجلس لتقديم تقريرها ردًا على بيان الحكومة. حضور الوزراء أمام ممثلى الشعب هذه المرة هو أمر دستورى، لكننا ننتظر أن يتواجد الوزراء فى قادم الأيام أمام «النواب» و«الشيوخ» بصورة منتظمة ليكونوا على صلة دائمة بالقاعدة الشعبية التى جاءوا من بين صفوفها مستهدفين خدمتها فى المقام الأول.
ندرك جميعًا كم التحديات التى تواجه حكومة د. مدبولى فى المرحلة الحالية، التى تتمثل فى تحديات اقتصادية، صحية، عمرانية، اجتماعية، جيو سياسية وتعليمية. وبناء عليه فإن المنصف لا يسعه إزاء كل تلك التحديات الكبرى التى تتفرع منها عشرات القضايا الثانوية إلا أن يشفق على كل من تم تكليفهم كأعضاء فى الحكومة من وزراء ونواب وزراء وكذلك المحافظين ونوابهم.
فى ظنى أن مسألة بناء الإنسان هى فى حد ذاتها قضية أمن قومى، فليس أهم ولا أغلى من الإنسان هدفًا لكل بناء، وهو فى ذات الوقت أداة هذا البناء. ومن ثم، فإن واجب الدولة وحكومتها الجديدة أن توفر بيئة صحية وبنية تعليمية مؤهلة لاستقبال نحو 2 مليون مولود جديد سنويًا، فضلًا على 28 مليون تلميذ فى مراحل التعليم الابتدائى والإعدادى والثانوى حاليًا. من المسلمات أن المواطن سيشعر بجهد هذه الحكومة ويقدره إن هى لبّت له مطالبه التى هى حقوق مواطنة ينالها فى ظل سيادة القانون ومبدأ العدالة الاجتماعية بالمساواة بين كل المواطنين فى الحقوق نظير التزامهم بأداء واجباتهم تجاه الوطن.
نتمنى أن تجتهد الحكومة لتحقيق المستهدف فى بند حقوق المواطنة بتوفير خدمة صحية متميزة تحترم آدمية الإنسان، بحيث توفر له مستشفيات مؤهلة لاستقبال كل الحالات فى أى وقت وفى كل المراكز الصحية والوحدات الطبية على مستوى الجمهورية، فى وجود وزير للصحة لديه من الكفاءة ما نشهد له به من خلال تجربته السابقة حين تولى التعليم العالى ثم غادرها إلى وزارة الصحة، وهو اليوم يضم إلى جانب حقيبته الوزارية المهمة منصبًا آخر هو منصب نائب رئيس الوزراء، مع تقديرنا لصعوبة المهمة فى ظل الموارد المالية المتاحة المخصصة للصحة فى الموازنة العامة للدولة.
مسألة أخرى لا تقل أهمية هى استكمال منظومة التأمين الصحى الشامل فى ظل تفعيل خطة التحول الرقمى فى مجال الرعاية الصحية. صحيح أصبحت لدينا جامعات كثيرة خاصة وأهلية وحكومية تضم كليات القطاع الصحى كالطب والصيدلة والأسنان والعلاج الطبيعى والتمريض وغيرها، لكن مراقبة منظومة التعليم الطبى الجامعى صارت أمرًا مطلوبًا وشديد الأهمية لضمان الحفاظ على سمعة الطبيب المصرى وكفاءته التى خرّجت لنا عباقرة الطب بدءًَا من رائد الطب المصرى الحديث د. على إبراهيم، وحتى تلك الرموز التى نالت لقب طبيب الإنسانية كالراحلين محمد مشالى وإبراهيم بدران، مرورًا بعمالقة كبار أمثال الدكاترة: مجدى يعقوب، أحمد شفيق، محمد أبوالغار، محمد غنيم، النبوى المهندس، ياسين عبدالغفار، وغيرهم آلاف، ولا أقول مئات، ممن شرّفوا المنظومة الطبية المصرية فى الداخل والخارج، وشهدت بكفاءتهم وتميزهم أكبر المراجع والدوريات الطبية العالمية.
قطاع آخر فى محور بناء الإنسان هو القطاع التعليمى وهو القطاع الذى أراه الأولى برعاية الحكومة الجديدة بما يفرض عليها وضعه على رأس أولوياتها، فنحن كأولياء أمور أو منخرطين فى العملية التعليمية بصورة أو بأخرى نلاحظ قصورًا شديدًا فى مستوى الأداء فى هذه المنظومة. هذا القصور متمثل فى البنية التعليمية من أعداد مدارس تفرض كثافة عالية فى الفصول الدراسية، فضلًا على نقص شديد فى أعداد المدرسين فى كل المراحل التعليمية قدّره بعض الخبراء بنحو 400 ألف مدرس. ولا ينفى هذا اهتمامًا بالغًا من الحكومات السابقة ومن الرئيس شخصيًا بقطاع التعليم وبالمعلمين على وجه التحديد، حيث وجه سيادته فى أكثر من مناسبة بضرورة الاهتمام بقطاع المعلمين باعتبارهم الشريان الأساسى للعملية التعليمية.
ومع ذلك فإن الأمر يستلزم حلولًا غير تقليدية ينبغى أن تتبناها الحكومة لسد العجز وعودة التلاميذ إلى فصولهم، كأن تعمل الدولة على تعيين خريجين جدد مؤهلين للتعامل مع المناهج التعليمية والطلاب والوسائل التعليمية الحديثة. ولا ضير فى رأيى من الاستعانة بمن يبلغ سن التقاعد من خبراء التعليم فى حال رغبتهم فى الاستمرار بالعمل لخمس سنوات إضافية طالما كان لائقًا صحيًا وذهنيًا، على أن يتعهد هؤلاء بالاستمرار فى العمل بالتدريس وليس فى الوظائف الإدارية حتى ولو بلغ المدرس منهم سن التقاعد وهو على درجة وكيل وزارة، فالحاجة الماسة نراها فى أعمال التدريس وليس فى أعمال إدارة العملية التعليمية.
هناك أيضًا ضرورة ملّحة لإعادة ضبط المشهد التعليمى بإحكام الرقابة على المدارس والحرص على وجود الطلاب فى كل المراحل واحتساب نسب الحضور والنشاط المدرسى والسلوك ضمن أعمال التقييم النهائى التى تؤهل الطالب للانتقال للصف التالى، فضلًا على أعمال الامتحانات التحريرية والشفوية. وتلك مسألة أخرى علينا مراجعتها والإنصات للخبرات التربوية والتعليمية التى تقدم النصح فى هذا المجال. فهناك تحفظات كثيرة أبداها الخبراء على شكل الورقة الامتحانية واقتصارها على طريقة الاختيار من متعدد، فتلك طريقة يرى الخبراء أنها لا تختبر كل الملكات والقدرات المستهدف قياسها لدى التلاميذ، كما أنها على عكس الأسئلة المقالية تسهّل عملية الغش لضعاف النفوس من الطلاب وأولياء أمورهم وكذلك المدرسين الذين باعوا ضمائرهم للشيطان وصاروا يهددون مستقبل الوطن ممثلًا فى فلذات أكبادنا وقضوا بسوء نيتهم على مبدأ العدالة بين الطلاب.
أما تلك المراكز التعليمية الليلية التى تغولت لتصير بديلًا غير شرعى عن المدرسة، فتوقف الطلاب عن الذهاب للمدرسة فى حالات كثيرة جدًا وفى القرى والحضر على السواء حين وجدوا البديل إما فى الدروس الخصوصية التى تستنزف ميزانيات الأسر المصرية، أو فى المراكز التعليمية الخاصة التى صارت تعمل نهارًا بنفس قوة عملها ليلًا، حيث المدرسون متسربون من عملهم بالمدارس أو استقالوا منه حين وجدوا البديل أكثر إقناعًا وإشباعًا ماليًا.
فى ذات الإطار الذى تعارفنا على تسميته بناء الإنسان يظل التدريب المستمر للكوادر الإدارية بالدولة أمرا ملحًا يُطلع المتدرب على أحدث التطورات فى نطاق تخصصه، كما يفتح أمامه آفاقًا جديدة للتطوير والتأهيل وتطوير ملكاته، فضلًـا على أن هذا التدريب يمكّن القيادات فى كل قطاع من اكتشاف منسوبيها ذوى القدرات المميزة ليكونوا قيادات وسيطة أو قيادات عليا فى الهيكل الإدارى للدولة. لا يقل أهمية عن كل ما سبق أمر تشجيع البحث العلمى وتوفير منح دراسية داخل البلاد وخارجها للأكفاء والمتفوقين وأصحاب المبادرات، والاستمرار فى تعيين الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه فى الدرجات الوظيفية بالهيكل الإدارى للدولة.
هذه مجرد محاور بسيطة لا أراها خافية على الحكومة الجديدة ولا القيادة السياسية، تحديات تستلزم توفير ميزانيات ضخمة نعم، لكن لها من الأهمية القصوى ما تهون أمامه أى ميزانيات أدرك تمامًا أن الحكومة تبذل قصارى جهدها لدبير التمويل اللازم لها رغم التحديات الكبرى التى تواجهها.