«مربع الحكمة» فى تجربة «لقمان»
خصال عديدة أشار إليها لقمان الحكيم حين سأله مَن حوله عن أسباب علو مكانته بين قومه، وهو الذى كان بالأمس عبدًا يرعى الأغنام، أو نجارًا يصنع لهم الأثاث الذين يحتاجون إليه. أشار إلى وفائه بالعهد، وكف لسانه عن الآخرين، وعفة مطعمه، ووفائه بالعهد، وإكرام الضيف، وحفظ حقوق الجار، وفتح بابه أمام الجميع، وغير ذلك، لكن تظل الخصال الأربع الأساسية التى رفعت مكانة لقمان ومثلت جوهر الحكمة فى حياته، متمثلة فى: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيه. ذلك هو مربع الحكمة، وضلعه الأول الإيمان بأن كل شىء فى هذه الحياة يسير بأقدار الله تعالى، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن العاقل هو من يسلم وجهه لله تعالى، ويرضى بقضائه وقدره. التسليم لأقدار الله هو عين الحكمة، إذا تذكرنا أن جوهرها هو شكر الله.. يقول تعالى: «ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله». فالإنسان الراضى بقضاء الله يتجه بكل سلوكياته وأعماله نحو شكره تعالى، وأداء الأمانات يمثل الوجه الأكثر نصاعة لشكر الله، ويمثل جوهر الشكر القائم على العمل فى الحياة. فأداء الأمانات لا يعنى مجرد الالتزام بتسليم ما يأتمن الناس شخصًا عليه، بل يحمل معنى أبعد من ذلك بكثير، إنه يعنى إسناد الأمور إلى أهلها، وإعطاء الحقوق لأصحابها، وعدم التمييز بين البشر، فأداء الأمانة هو جوهر العدل، وقد كان لقمان قاضيًا كما تعلم.. يقول الله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».
تعال بعد ذلك إلى صدق الحديث، ويمثل الضلع الثالث من مربع الحكمة الذى التزم به «لقمان» فى حياته، فلم يكن يكذب فى قول أبدًا، وكان جوهر صدقه مع الناس هو صدقه مع خالقه، ولا يوجد شىء يؤثر فى البشر مثلما يؤثر فيهم الصدق، ولا يوجد سر للنجاح فى هذه الحياة قدر الصدق فى الأداء. إن جوهر الإعجاز فى القرآن الكريم يتمثل فى الصدق المطلق.. يقول الله تعالى: «الله نزل أحسن الحديث كتابًا»، وقد جعل الله تعالى الصدق بوابة الدخول والخروج إلى ومن الحياة: «وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق».. والمصطفون من عباد الله هم من جعل الله تعالى لهم لسان صدق عليا: «ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا». ويتكامل مع صدق الحديث مع الناس ترك الإنسان ما لا يعنيه، وقد كان لقمان الحكيم شديد الالتزام بذلك، فلم يكن يدس أنفه فيما لا يعنيه، أو يحاول اختراق خصوصية من حوله. وظنى أن هذه الخصلة تمثل جوهرًا من جواهر الإيمان بالله تعالى. فالإيمان مسألة فردية، الأصل فيه هى إحساس الإنسان بأنه مسئول عن أعماله: «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا».. فالإنسان محاسب أمام ربه بصورة فردية: «وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا»، وهو فى الأول والآخر معنى بنفسه لا بغيره.. يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون». وثمة إشارة عبقرية فى القرآن الكريم تلخص لك مربع الحكمة فى تجربة لقمان عليه السلام، تجدها فى هذا الجزء من الآية الكريمة التى تقول: «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه». فقد توجه أول ما توجه بمواعظه إلى ابنه، لأن المفروض أن أول من يستفيد من حكمة الأب هو الابن، وأول من يتأثر بالأب هو الابن، وإذا عجز الأب عن التأثير فى أبنائه فإنه سيكون عن سواهم أعجز. نعم قد تكون هناك استثناءات لذلك، كما حدث مع ابن نوح، الذى عصى أباه وانحاز إلى قومه فى الكفر، لكن مؤكد أن أبناء نوح الآخرين تأثروا بأبيهم وآمنوا به. فالأصل فى الآباء هو القدرة على التأثير فى الأبناء، وذلك جوهر التربية، وإذا نجحوا فى ذلك فإن نجاحهم فى التأثير فى سواهم سيكون أكبر. ومن الحكمة أن يلتفت المصلح أول ما يلتفت إلى أهل بيته، إعمالًا للمبدأ النبوى الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».. ولكى يكون المصلح مؤثرًا لا بد أن يكون صادقًا، فصدق الحديث أصل من أصول التأثير فى الجمهور، وعليه أيضًا ألا يتبرع بالنصيحة إلا حين تطلب منه، وإذا تطلب الأمر التطوع بها دون طلب فعليه أن يلقى بكلمته ثم يحمل عصاه ويرحل، لأن الهدى بعد ذلك بيد الله وليس بيده، وذلك هو جوهر الإيمان بأقدار الله تعالى. وقد وجه الخالق العظيم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فى قوله تعالى: «لقد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ».
ذلك هو مربع الحكمة كما تجلى فى تجربة لقمان عليه السلام، ضلعه الأول هو الإيمان بأقدار الله، والثانى أداء الأمانات إلى أهلها، والثالث صدق الحديث، والرابع عدم التدخل فيما لا يعنيه. كذلك قدم الرجل نفسه إلى مجتمعه كنموذج للحكمة وعاش بين أهله واستطاع أن يقدم تجربة اكتسبت الخلود، وسجلتها الكتب المقدسة، تجربة تأسست على عمق النظر فى أحوال الحياة والأحياء، واستخلاص الحكمة بالعقل والتأمل، وتجربته كما سجلها القرآن الكريم تستحق التأمل، من زاوية أن الإنسان قادر على الوصول إلى الحقيقة، والتمييز بين الصواب والخطأ، والحق والباطل، عن طريق فطرته النقية والسليمة والقويمة. فالعقل السليم بوصلة الاستقامة فى الحياة.