الاحتفال بالكبار سنًا وعطاء
اعتدنا أن نرى فى الأوساط الوظيفية ودواوين العمل الحكومية تلك الاحتفالات التكريمية التى ينظمها الموظفون لزملائهم- أيًا كانت درجاتهم الوظيفية- يوم إحالتهم للتقاعد وانتهاء رسالتهم فى خدمة الوطن بمصلحة أو وزارة أو ديوان ما. وفى هذا عُرف إنسانى محمود يبهج المحتفى به، كما أنه يحفّز كل زميل له، فى الخدمة لا يزال، على أداء متميز وعلاقات طيبة بالزملاء وبالإدارة ليجد المتحدثون يوم تكريمه من المواقف والإنجازات ما يذكرونه له فى يوم توديعه لمؤسسته ووظيفته.
آخذ على كثير من تلك الاحتفاليات أنها تتسم بالمبالغة فى الثناء والمديح للمحتفى به بصورة قد تجافى الحقيقة، وتصف المتقاعد بما لم يكن فيه. بل على العكس من ذلك تمامًا، حضرت للأسف عددًا من تلك المناسبات مدعوا فى بعض المصالح الحكومية. وبينما كان المتحدث على المنصة يشيد ويمتدح، كان بعض الحضور فى القاعة بجواري يذمون ويتندرون على ما يقال متذكرين للمحتفى به مواقفه السلبية معهم. وعند السماح بفتح البوفيه يكون أمثال هؤلاء أول المبادرين لتناول قطعة الحلوى وزجاجة المياه الغازية على شرف زميلهم المتقاعد، بعد أن خاضوا فى شرفه المهنى ربما بالحق وغالبًا بالباطل.
وبعيدًا عن تلك الاحتفالات الروتينية الآلية حضرت عددًا من التكريمات لمبدعين بلغوا سن السبعين من العمر، قضوا معظمها في مسيرة إبداع سواء فنيًا أو أدبيًا أو صحفيًا، وهى احتفالات أسعد بحضورها، حيث أراها أحد مظاهر رد الجميل من الوطن للمخلصين المبدعين من أبنائه. أذكر فى هذا السياق احتفالية مبهرة تشرفت بحضورها أبريل 2014 فى دار الهلال تكريمًا للروائي الكبير يوسف القعيد بمناسبة سبعينيته، وبحضور عدد غير قليل من رموز الوطن في الصحافة والأدب، وكللها حضور الراحل هيكل الذي جمعته بالقعيد علاقة صداقة لسنوات غير قليلة.
وفي نفس السنة أيضًا نظمت "الأهرام" احتفالية كبيرة بمناسبة عيد الميلاد السادس والسبعين للخال الأبنودي في حضرة الكبار- الراحلين فيما بعد ذلك التاريخ– ومن بينهم: هيكل، الغيطانى، بهاء طاهر، حمدى أحمد، مصطفى حسين وغيرهم. وفى احتفالية أخرى قبل أن ينتهى ذات العام كان هناك احتفال مشابه بسبعينية الشاعر والناقد د. حسن طلب، وهو تكريم مستحق لرجل أعطى للغة العربية الكثير أكاديميًا وإبداعيًا.
وقبل عامين تشرفت بحضور أمسية تكريمية للشاعر الكبير أحمد سويلم بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، والتي قضى معظمها مدافعًا عن الوطن وثقافته بين الخدمة الوطنية ضابطًا بالقوات المسلحة وشاعرًا مدافعًا عن اللغة العربية كواحد من سدنتها. وبشكل احتفالى مختلف نظم قطاع الفنون التشكيلية معرضًا استعاديًا لمحطات متنوعة من مسيرة الفنان التشكيلى محمد عبلة بمناسبة عيد ميلاده السبعين أيضًا.
وخلال أيام سيكون هناك احتفال كبير فى نقابة الصحفيين تكريمًا للكاتب الصحفى والشاعر الكبير محمد الشحات، والذى عمل صحفيًا فى مجال النقد الرياضى، وأشرف لسنوات طويلة على نشرة معرض الكتاب الدولى، كما أسهم فى مجال العمل التطوعى من خلال الأوليمبياد الخاص، ورغم تشعب إبداعاته بين الصحافة والرياضة والعمل الأهلى إلا أنه آثر أن يهتم الاحتفال بالجانب الشعرى فى مسيرته الإبداعية، وجاء اختيار المتحدثين فى الاحتفالية على هذا الأساس.
على كل حال، أرى أن تكريم كل صاحب عطاء وهو على قيد الحياة أفضل ألف مرة من سرادقات العزاء التى تقام له بعد رحيله حضرها مَن حضر أو غاب عنها من غاب، إن حفلات التكريم تلك أمر يستحق التقدير والإشادة وسُنة بشرية حسنة تستحق الاتباع. أتذكر مثلًا أننى حضرت حفلات تأبين لعدد غير قليل من نجوم المجتمع، من بينها حفل تأبين الكاتب الراحل محمد سيد أحمد، وذلك فى عام 2006 بمشاركة قامات مجتمعية كبيرة فى حينه أمثال: خالد محيى الدين، أحمد نبيل الهلالى، محمد سلماوى، محمد عودة وجلال عارف.
وبعد أن انتهت تلك الاحتفالية الكبيرة سألت نفسى وأنا فى طريقى لمنزلى: ماذا حصد الراحل الكبير من هذه الاحتفالية؟ ألم يكن من المبهج له أن يسمع كلمة واحدة من تلك الكلمات المؤثرة خلال حياته لتكون دافعًا ومحفزًا إضافيًا له على مزيد من العطاء المهنى والنضال الوطنى؟ ألم يكن من الأفضل لى– بصورة شخصية– أن أسمع كل هذه التفاصيل عن هذا الرجل العظيم لأنظر لكتاباته برؤية مختلفة، ولأستطيع تفسير هذه الكتابات وفقًا لرؤيته الوطنية ومذهبه السياسى؟
ومن هنا فإننى أتمنى من كل مؤسسة فى بلادنا أن تكرّم كبار رموزها وهم أحياء يرزقون. علينا يا سادة أن نعرف قدر كبارنا ليحترمنا صغارنا حين نكبر، وحتى نعطى صورة إيجابية لمجتمعنا كمجتمع يقدّر كباره ويوقرهم ويحفظ لهم الجميل ويصفح عن هناتهم. إن مصر دولة الإبداع بمؤسساتها العملاقة وإعلامها العريق ينبغى أن يزيد اهتمامها بالرموز وهم على قيد الحياة، وأن تباهى الدول بقوتها الناعمة فهم سر خلودها ودوام ريادتها.