تضخم المواعظ.. لماذا؟
د. منى حلمى تكتب:
تضخم المواعظ.. لماذا؟
********
هناك تساؤلات تفرضها مقولة: «الشعب المصرى متدين بفطرته».
أولًا، إذا كان الشعب المصرى «متدينًا بالفطرة»، إذن هو لا يحتاج لأى جرعات إضافية «صناعية»، «خارجية»، من التدين، والوعظ الدينى، والحث على الإيمان. لكن الواقع يشهد تضخمًا فى البرامج والإرشادات والأوامر والنواهى.. الصلوات تُذاع على الهواء مباشرة، والميكروفونات فى المساجد والجوامع تدخل آذان مَنْ هم خارج الوطن. وإطلالات الشيوخ ورجال الدين لها ساعات مخصصة لهم. وإعلانات الصابون والزيت والشاى والأكل تستخدم الآيات الدينية والأزياء الدينية لسحب الفلوس من الجيوب. هذا غير تحفيز الناس للتبرعات، والصدقات، لعلاج الأمراض، وبناء مساجد، أو تقديم مساعدات لضحايا الزلازل والحروب.
ثانيًا، إذا كان الشعب المصرى «متدينًا بفطرته»، كان من المفروض أن نصبح مجتمعًا خاليًا من الجرائم داخل البيوت وخارجها. ومع «التدين المضاعف»، الذى أغرق كل شبر فى مصر، منذ غزوات «الإسلام هو الحل»، كنا تحولنا إلى «واحة أخلاقية» عالمية. ولكن الواقع يشهد، خاصة بعد «تديين» و«أسلمة» مصر، تكاثرًا فى الكم والكيف، بشكل غير مسبوق.
هذا معناه أن «التدين» ليس طرفًا أصيلًا فى معادلة الأخلاق، محاسنها أو مساوئها، وأن «التدين» سواء كان فطريًا أو مغروسًا، يؤدى إلى نتيجة عكسية تمامًا. وإذا كان هكذا الأمر، لماذا فشل «التدين»، المخترق الإعلام والثقافة والتعليم، فى السمو بالأخلاق؟
فى أفلامنا، نشاهد اللص، أو القاتل، يستعد لتنفيذ جريمته، ويطلب الدعاء من أفراد عصابته. وعادى جدًا أن نسمع: «اتوكل على الله.. ربنا معاك.. ربنا يجيبك بالسلامة». يرد المجرم: «هاخطفلى ركعتين عالسريع». ربما هو مشهد يثير الضحك، من تناقضه. لكنه أبلغ تعبير عن اهتراء الواقع، وازدواجياته الأخلاقية الصارخة، واستغلال الدين للتغطية على الأجواء الفاسدة.
حين ينصحنى الناس بمتابعة طبيب، يقولون عنه: «متدين وبيخاف ربنا»، أعرف أننى لن أكون بمأمن.
لن نتقدم فى مجالات التعليم والإعلام والثقافة والاقتصاد والاكتشافات العلمية والطبية والقانون والتشريعات، إلا إذا استقامت أخلاقنا، وتركيبة شخصيتنا.
لا تكلمونى عن «تنظيف البيئة»، والأخلاق «ملوثة» بعادم المبادئ، وتحلل الضمائر المدفونة تحت الجلد، وقمامة آلاف السنوات، وغبار أزمنة لم يبق منها إلا الهيكل العظمى.
لا نحتل المراكز الأولى إلا فى «الكلام دون الفعل»، و«الأطفال حفظة القرآن».
لا يوجد مجتمع يتكلم طوال الوقت عن الأخلاق والشرف والدين والتدين، مثل مجتمعاتنا.
إن فاقد الشىء هو مَنْ يعوض غيابه بالكلام، والزعيق، والشكليات المفرغة من الجوهر.
نحتاج أن «نفعل» الأخلاق والشرف، لا أن تكون كلمات على شفاهنا.
إن الصين يبلغ تعدادها مليارًا ونصف المليون تقريبًا، أى 18% من عدد سكان العالم، وهى تفتخر بأنها «بلا دين»، وأن الديانة الرسمية للبلد هى الإلحاد، هل يمكن أن يصفه أحد بـ«الانحلال والتدنى والخزى الأخلاقى»، مع كل إنجازاته المتتالية؟
لا بد من فتح ملف الأخلاق علنًا، وإعادة التساؤل عن معنى الأخلاق، ومعنى التدين، والعلاقة بينهما. ولا بد أن يصبح مشروعًا قوميًا، واضح المعالم، تقوده التيارات المستنيرة فكريًا، وحضاريًا، المؤيدة للدولة المدنية.
أسوأ ما يصيب شعبًا، أو مجتمعًا، أو فردًا، هو «الإفلاس الأخلاقى»، وليس «الإفلاس النقدى أو المالى».
صدق «أحمد شوقى»: صلاح أمرك للأخلاق مرجعهُ.. فقوِّم النفس بالأخلاق تستقمُ
إنما الأممُ الأخلاق ما بقيت.. فإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا.
==================================================
من بستان قصائدى
============
على مقهى المطار
أجلس إلى مائدة بجانب النافذة
أنتظر مغادرة الطائرة
تحملنى بعيدًا عن كل الأشياء
أرتشف القهوة وأنا
أشاهد هبوط وإقلاع الطائرات
دفعت ثمنًا باهظًا
للوزن الزائد فى حقائب الذكريات
قلبوا صفحات جواز السفر
كأننى مجرمة عابرة الحدود
دونوا أخيرًا موعد الخروج
وأعطونى أخيرًا بطاقة الصعود
بها مكان ورقم المقعد
لا أكمل الرشفة الثانية
من فنجان القهوة
كم هى رديئة الصنع
باردة مثل وجوه المسافرين
تعكر مزاجى.. توترت أعصابى
حتى عند الوداع الأخير
ما زال الوطن بخيلًا
أتأمل المكان وحركة الناس
ومرة أخرى أشعر بالغثيان
مثل كل سجين أسير
فعلت المستحيل لأكسر القضبان
أهرب بعيدًا عن العيون
وأمسح عنى صدأ الوجود
وها هى عقارب الساعة
ليست إلا دقائق وأطير
سمعت النداء الأول لطائرتى
وأنا جالسة فى مكانى
سمعت النداء الثانى والثالث
لا أتحرك شاردة العيون
أسمع النداء الأخير للإقلاع
وقفت أتفرج على طائرتى
وهى ترتفع عن الأرض
تحمل حاجاتى وحقائب الذكريات
مزقت بطاقة الصعود ورميتها
خرجت مسرعة من المطار
وأنا ألملم دهشتى وفرحتى
عرفت أين سأبيت الليلة