رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحجاج».. ولسان الاستبداد

لم يكن «الحجاج» عادلًا بمقاييس عصره، ولا بمقاييس المؤرخين المتأخرين، فهو فى نظر الجميع مستبد، واستبداد الحجاج وقسوته أمر لا مراء فيه، فقد كان الرجل كذلك وأكثر، فأزهق الأرواح، وجلد الظهور، وضرب الأبشار، واستحل حرمات مخالفيه، ولم يتردد فى التنكيل بكل من تسول له نفسه معارضة الخليفة، أو الخروج عن دائرة طاعته، كأمير لجيوش الخلافة. كان الحجاج كذلك وأكثر، والرجل كان أول من يصف نفسه بالاستبداد. فهو الذى قال وهو يقدم نفسه إلى أهل العراق: «إن أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان نثر كنانته، ثم عجم عيدانها عودًا عودًا، فوجدنى أمرّها عودًا وأصلبها مغمزًا، فوجهنى إليكم». الاستبداد لا يصنع قيادة صالحة بحال من الأحوال، لكنه قد يقدم قيادة ناجحة قادرة على تحقيق أهدافها، خصوصًا إذا أدركت بشكل جيد الوسائل التى تعينها على تحقيق الأهداف، والأهم من ذلك أن تكون متصالحة مع نفسها، وواعية بالواقع من حولها، فلا تكذب ولا تراوغ، وتتعامل مع الآخرين بلغة وأفعال صريحة، كما كان يفعل «الحجاج».

العدل هو الواقع المثالى ولا شك، لكن هل بمقدور كل قوى أن يكون عادلًا؟، ربما شهد التاريخ استثناءات بشرية من هذا النوع، لكن هذا الاستثناء يؤكد قاعدة أن القوى أشد جنوحًا إلى الاستبداد، وحتى عندما يمارس العدل فإنه يمارسه بطريقته الخاصة، أو بعبارة أخرى ينفذ ما يراه هو عدلًا، بغض النظر عن رؤية الآخرين له، لأن الاستبداد يعلّم صاحبه ألا ينشغل كثيرًا بأمر الآخرين، وقد يرى البعض فى المستبد ما رآه الحسن البصرى- وهو واحد من كبار فقهاء المسلمين- فى «الحجاج». يحكى أن العلماء فزعوا إلى الحسن البصرى وقالوا له: ماذا تفعل.. وأنت ترى الحجاج يسفك دماء المسلمين دون رحمة أو شفقة، ويقتل أعداءه دون قضاء أو محاكمة، وينفق ثروات المسلمين فيما يغضب الله؟. فقال لهم: «لا تقاتلوا إلا إذا أعلن الكفر بالله، وأنكر أصلًا من أصول الدين، وإن تكن أفعاله الآن عقوبة من الله، فما أنتم برادى عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين».

استبداد الحجاج من وجهة نظر «البصرى» أحد أمرين، فإما أن يكون عقوبة من الله، ليس لها من رد، أو أن يكون بلاء يستوجب الصبر. حالة واحدة رأى «البصرى» ضرورة الخروج على «الحجاج» فيها، وهى حالة الكفر أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة، ومن المعروف تاريخيًا أن الحجاج كان شديد الالتزام فى هذا الجانب، وقد سمى «الحجاج» لكثرة حجه إلى بيت الله. كان الحسن البصرى، مثل غيره من العلماء، لا يرون مندوحة فى استبداد القيادة، طالما لم تقترب من أمر الدين، وكانوا يرون فى أمثال «الحجاج» سيفًا من سيوف النقمة الإلهية لمعاقبة البشر على جرائرهم من ناحية، وأداة لازمة لتحقيق الاستقرار من ناحية أخرى، إلى الحد الذى رأوا أن الخروج على هذا الصنف من القيادات هو جوهر الفتنة، لأن ما يترتب على الخروج عليها من إراقة دماء وإزهاق للأرواح أشد خطرًا من النتائج التى تترتب على طاعتها مع استبدادها، ولأن المجتمعات العربية بطبيعتها أجنح إلى الاستقرار وأرضى به، ولا تحب التوتر، ولا تحتمل المشكلات، ولا تمتاز بالنفس الطويل، كان من الطبيعى أن تكون مهيأة الأوضاع والظروف لتقبل فكرة الاستبداد، حتى لو أنكرته بلسانها وآثرت عليه العدل، فلا يوجد عاقل يختار الاستبداد إذا خُيّر بينه وبين العدل، لكنها فى داخلها ترى أن الاستبداد هو الوسيلة المُثلى لتحقيق الاستقرار حتى ولو جاء بسيف مثل سيف «الحجاج»!.

وللإنصاف، علينا أن نعترف بأن أهواء المؤرخين، ومواقفهم من حكم بنى أمية، انعكست بصورة أو بأخرى على نظرتهم إلى رجال دولتها، وأخطرهم «الحجاج»، فقد أسدى هذا القائد إلى الدولة الأموية العديد من الخدمات، وكانت له أدوار شديدة المحورية والأهمية فى الحفاظ عليها. يتأكد ذلك من مراجعة سجل أعماله فى خدمة الدولة الأموية، ونجاحه فى القضاء على كل أشكال المعارضة لها، بدءًا من المعارضة التى قادها عبدالله بن الزبير فى مكة، وكانت تمثل تهديدًا خطيرًا للخلافة فى دمشق، وانتهاءً بإخماد التمرد الذى قاده عبدالرحمن بن الأشعث. وقد ظهر الأخير على مسرح الأحداث ما بين عامى ٨٠ و٨٢ من الهجرة، حين اختاره «الحجاج» قائدًا للجيوش التى سيّرها من الكوفة والبصرة لقتال «رتبيل» ملك الترك، وتمكن من الاستحواذ على بلاد ومدن كثيرة من بلاد ملك الترك، وغنم أموالًا جزيلة، وسبى خلقًا كثيرة، ثم حبس الناس عن التوغل فى بلاد «رتبيل» ملك الترك، وكتب إلى الحجاج يخبره بما وقع من الفتح، ويؤكد له عزمه على عدم تنفيذ أوامره باستكمال الزحف نحو بلاد الترك، وخلع بيعته وبيعة الخليفة الأموى من رقبته، وتمكن «الحجاج» فى النهاية من القضاء عليه.

لقد اعتبر بعض الكتاب والمؤرخين «الحجاج» رمزًا للقيادة المتسلطة الديكتاتورية، ربما كان معهم حق فى ذلك، طبقًا للمعايير التى يقيسون عليها، لكن يبقى أنهم نسوا أن التاريخ سمى للأجيال المتتالية مستبدين كثرًا، لم يكن لأى منهم قدرات أو ملكات «الحجاج».