فيلم الوداع والتكريم
8 يونيو 2024، تهل الذكرى الخامسة والسبعون، لرحيل واحد من فرسان الفن السهل الممتنع، وهو واحد من الفنانين، الذين عندما نكرمه، إنما نكرم أنفسنا، وعندما نتذكره، نتذكر أجمل ما فينا، وأروع ما فى الفن، وأهم ما فى الحياة، فنان لم تكن سنوات عمره القصيرة، كافية للإحاطة بخصوبة مواهبه، واتساع أحلامه الفنية، وتجدد ابداعاته. ولكنها كانت كافية، لكى ندرك ماهية الفن، وأخلاقياته، ودوره فى تجميل الحياة، ورسالة الضحك الراقى، فى تخليصنا من أمراضنا، واضطراباتنا، وأحقادنا، ويأسنا.
كان عبقريا فى تحويل مآسى الحياة، إلى ابتسامات وضحكات وحكمة، تدوس على الصعب، وتقهر الإحباط، تأليفا، وتمثيلا.
أسس مدرسة تحمل اسمه، تخرج فيها كل فنان له قيمته الرفيعة، وكل فنانة لها مكانتها المرموقة.
تزوج بديعة مصابنى 25 فبراير 1892 – 23 يوليو 1974، ملكة المسرح، وزعيمة الرقص الشرقى، وكونا معًا ثنائيًا ناجحًا، فى كازينو بديعة مصابنى، الذى كان ملجأ لكل المواهب الناشئة، فى جميع مجالات الفن؛ ليصبحوا بفضلها نجوم ونجمات المستقبل.
إنه نجيب الريحانى، المولود فى 21 يناير 1889، ورحل عن عالمنا فى 8 يونيو 1949.
يسميه فؤاد المهندس "الهرم الرابع وأعظم ممثل فى العالم"، وقال عنه فريد شوقى، عندما اختاره بديع خيرى 18 أغسطس 1893- 1 فبراير 1966، صديق الريحانى ورفيق رحلة إبداعه، لكى يعيد إحياء مسرح الريحانى، بعد موت ابنه عادل خيرى 25 ديسمبر 1931 – 12 مارس 1963: "هربت من بديع خيرى خوفًا من مقارنتى بالريحانى، الممثل الأول على مستوى الوطن العربى.. منْ أكون أنا، لأمثل أدوار الريحانى؟! خفت من المقارنة، التى أعتبرها مستحيلة، وفى النهاية وافقت وعملت أدوار الريحانى بطعم فريد شوقى، وبعد أول مسرحية، ولاقت نجاحًا كبيرًا، جاء بديع خيرى على كرسيه المتحرك وقال للجمهور
"وتستمر مسيرة الريحانى".
أما تحية كاريوكا 22 فبراير 1915 – 30 سبتمبر 1999، والتى كان فيلم لعبة الست مع الريحانى، نقطة انطلاق فارقة فى حياتها، فقالت: "كنت أقف أمثل أمامه، أشعر أننى أمام عملاق له هيبة، كان فى عز مجده، وأنا فى بدايتى، لكنه شجعنى وبتواضعه النادر أزال عنى الخوف".
رحل "نجيب الريحانى"، فى 8 يونيو 1949. 75 سنة، مضت دون أن يأتى الزمان، بفنان مثله، يهزنا من الأعماق، يبهجنا، ويبكينا، برؤية فلسفية، راقية.
يبهرنى نجيب الريحانى 21 يناير 1889 – 8 يونيو 1949، فى أنه "خلطة" عجيبة، من امتزاج الضحك، والبكاء، فى ضفيرة واحدة متشابكة، اسمها "الإبداع".
لكن هذه "الخلطة"، هى اللوحة الحقيقية للوجود الإنسانى. ذلك الوجود، الذى يأبى إلا أن يدهشنا، حينًا من قلب الحجر، ومن الأرض الطين، تخرج السنابل والورود. ومن سم الثعبان، يُصنع الدواء الشافى.
إن العمر الفنى، الذى عاشه، "سى عمر"، 33 عامًا، من عام 1916، وحتى 1949. ومع ذلك، ترك ميراثًا هائلًا، من الأعمال الفنية، أغلبها المسرحيات، التى أسست ميلادًا، لمسرح مصرى، واضح الملامح، عميق الرؤية، وطنى الانتماء، مع "بديع خيرى".
فى فيلم "لعبة الست"، يقول حسن، لزوجته لعبة: "النفس الجشعة والقلب الجحود والعينين اللى مفيهومش غير الزيف والغدر والخيانة، أبيعهم رخيص.. رخيص أوى.. من غير فلوس.. أبيعهم من غير حاجة.. أبيعهم وأعتبر نفسى أنا الكسبان".
فى فيلم "غزل البنات"، يهمس الأستاذ حمام، ناعيًا حظه، ومنطق الدنيا الدنىء: "أنا لو من 18 سنة بعلم كلاب، كان زمانى بقيت من الأعيان".
هذان المشهدان، يؤكدان قدرة الريحانى البارعة، لتجسيد الكوميديا الساخرة، فى آن واحد، مع ذروة المأساة. واذا لم يكن هذا هو الفن، فماذا يكون؟.
دخل فيلم "غزل البنات"، قائمة أهم مائة فيلم مصرى، وهو الفيلم الذى مات الريحانى، قبل أن يراه على الشاشة.
لا أعتقد أنها صدفة، أن يجمع الفيلم، أغلب نجوم هذا العصر الذهبى، ليلى مراد، أنور وجدى، محمد عبد الوهاب، يوسف وهبى، فردوس محمد، عبد الوارث عسر، محمود المليجى، فريد شوقى، زينات صدقى، استيفان روستى.
قناعتى، أن كل هؤلاء النجوم العظماء، قد شعروا بأن الريحانى، راحل قريبًا، فكان اجتماعهم، بمثابة "وداع"، وأيضًا "تكريم".
أين مسرح الريحانى الآن؟؟. هل يفكر أحد فى احياء نهضة هذا الصرح
الراقى ؟؟. بعد أن كان مثالا فى الفخامة والشياكة والانضباط، يرتاده الرؤساء والملوك وعظماء القوم، أصبح كما قرأت مرة، مثل المخزن، وبقايا البيوت المتهالكة.
من بستان قصائدى
--------------------
أحضروا فى خطة محكمة
"بلدوزر" متوحشًا..
هدم "بيتى".. دًمر "بستانى"..
قتل زهور أحشائى..
راح كل شىء واندثر
ثم ابتسموا لى قائلين:
"ربنا عاوز كده
أكيد له حكمة غامضة
دى قسمتك ونصيبك
وده القضاء والقدر".