رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تل أبيب لا تثق إلا فى القاهرة.. وسيطًا

إسرائيل معزولة عن العالم، الذي اكتشف حقيقتها، بعد أن سقطت عنها ورقة التوت في قطاع غزة، وخصوصًا بعد اجتياح رفح، والسيطرة على المعبر، طوق النجاة الوحيد لاستمرار حياة أهالي القطاع، من خلال المساعدات التي تقدمها مصر وبعض دول العالم، التي تحملها الشاحنات عبر هذا المعبر.. إذ أغلق جيش الاحتلال أبوابه من ناحية غزة، ورفضت مصر التعامل مع غير الفلسطينيين في هذا المعبر، حتى لا تُشرعن احتلال الجيش الصهيوني له ورفع العلم الإسرائلي عليه.. والحكومات الغربية مأخوذة بحركة الشارع في بلدانها، ومظاهرات الشعوب الرافضة للعنف الإسرائيلي الجارف ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، والمطالبة بالحياة لهذا الشعب، في دولته المستقلة، مُنعمًا بالحرية من الاحتلال الذي خنق أنفاسه لأكثر من خمسة وسبعين عامًا، بعد أن حول غزة إلى سجن كبير.

إسرائيل في ورطة، بعد قرار الجنائية الدولية بإصدار أمر اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاع حكومته، يوآف جالانت، بالتزامن مع قرار محكمة العدل الدولية بالوقف الفوري للحرب في رفح.. وهي في كارثة، بعد الضربات القاسية التي يتلقاها جنودها وعتادها من رجال المقاومة في القطاع، والشروخ الحادثة في علاقة المسئولين في حكومة الحرب بعضهم ببعض، وعلاقة هذه الحكومة بمواطني إسرائيل في الداخل.. وما يزيد الطين بلة، هو تهديد مصر بتجميد معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، إذا استمرت أبيب في غيها داخل رفح، ورسمها خطًا أحمر، يحول دون تهجير الفلسطينيين من غزة إلى الأراضي المصرية.. بل إن الأدهى، هو تهديد القاهرة بالانسحاب من دور الوسيط في المحادثات بشأن الهدنة بين حماس وإسرائيل، نتيجة التشكيك الذي نشرته الـ CNN بشأن انحياز مصر للمقاومة، ما حدا بالقاهرة إلى القول بأن (مواصلة محاولات التشكيك) في دور مصر (قد يدفع الجانب المصري لاتخاذ قرار بالانسحاب الكامل من الوساطة التي يقوم بها في الصراع الحالي)، لأنها (تستغرب محاولات بعض الأطراف تعمد الإساءة إلى الجهود المصرية المبذولة على مدار الأشهر الماضية، للتوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة ووقف نزيف الدماء في القطاع.. هذه الأطراف تمارس لعبة توالي الاتهامات للوسطاء واتهامهم بالانحياز وإلقاء اللوم عليهم، فتارة تتهم قطر وتارة تتهم مصر، للتهرب من اتخاذ القرارات المطلوبة لوقف إطلاق النار)، مع أن ممارسة مصر دور الوساطة في صفقة وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن بقطاع غزة، (جاءت بعد طلب وإلحاح متواصل للقيام بهذا الدور، نظرًا لخبرة وقدرة وحرفية مصر في إدارة مثل تلك المفاوضات الصعبة).. وكان القول الفصل، على لسان مصدر مصري رفيع المستوى، بأن (احترام مصر لالتزاماتها ومعاهداتها الدولية لا يمنعها من استخدام كل السيناريوهات المتاحة، للحفاظ على أمنها القومي والحفاظ على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني)، ومع أن (الموقف الإسرائيلي لا يزال غير مؤهل للتوصل إلى صفقة بشأن وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المحتجزين)، إلا أن القاهرة (لا تزال ملتزمة بالمساعدة في التفاوض على اتفاق لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح المحتجزين في قطاع غزة رغم التشكيك في جهود الوساطة التي تبذلها).

هنا.. أدركت تل أبيب أن حبات العقد تنفرط من بين يديها.. فأعلنت هيئة البث العبرية الرسمية عن أن (المجلس الوزاري المصغر للشئون الأمنية والسياسية ـ الكابينت ـ أوعز إلى الفريق المفاوض، بمواصلة التباحث حول إعادة المخطوفين لدى حركة حماس منذ هجوم السابع من  أكتوبر الماضي)، وأعلن جيش الاحتلال انسحابه من معبر رفح، لأسباب، قال إنها سياسية وعسكرية، لأن (مكاسب الحرب تتآكل، وأمن إسرائيل على المدى الطويل أصبح على المحك)، كما أكد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، الذي دعا حكومة بنيامين نتنياهو، إلى اتخاذ (القرارات الصعبة) بشأن من سيحكم قطاع غزة بعد الحرب، فيما رد نتنياهو على جالانت بالقول إن (أي تحرك لإنشاء حكومة بديلة لحماس يتطلب القضاء على الحركة أولًا)، وهو ما تراه الولايات المتحدة صعب المنال، إذ إن إدارة الرئيس جو بايدن ـ على لسان كيرت كامبل، نائب وزير الخارجية الأمريكي ـ لا ترى أن إسرائيل ستحقق (نصرًا كاملًا) في هزيمة حماس.. وتُعد تعليقات كامبل هي الأكثر وضوحًا حتى الآن لمسئول أمريكي كبير، يعترف فعليًا بأن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية الحالية لن تحقق النتيجة التي تهدف إليها، (في بعض النواحي، نجد صعوبة في تحديد ماهية نظرية النصر.. وفي بعض الأحيان عندما نستمع عن كثب إلى القادة الإسرائيليين، فإنهم يتحدثون في الغالب عن فكرة نصر كاسح في ساحة المعركة، نصر كامل.. لا أعتقد أننا نرى أن هذا محتمل أو ممكن، وأن هذا يشبه، إلى حد بعيد، المواقف التي وجدنا أنفسنا فيها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث يستمر التمرد بعد نقل السكان المدنيين والكثير من أعمال العنف)، كما ذكر كامبل، خلال قمة لشباب حلف شمال الأطلسي في ولاية ميامي الأمريكية.

نفق أشد حُلكة من أنفاق حماس في غزة، وجدت إسرائيل نفسها وقد دخلته، بتزايد الضغوط الدبلوماسية على تل أبيب، مع امتداد المعركة مع حماس إلى شهرها الثامن، وتصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بهامش كبير، خلال هذا الشهر لمنح فلسطين (حقوقًا وامتيازات) جديدة، في علامة على تزايد الدعم الدولي للتصويت على العضوية الكاملة، للسلطة الفلسطينية التي تشغل حاليًا مركز المراقب.. وأعلنت إسبانيا وأيرلندا والنرويج أنها ستعترف بدولة فلسطينية، ما يُعد خطوة نحو طموح فلسطيني طويل الأمد، جاء وسط غضب دولي من عدد القتلى المدنيين وأزمة إنسانية في قطاع غزة في أعقاب الهجوم الإسرائيلي.. وقد تولد القرارات المتزامنة تقريبًا، التي تتخذها دولتان من دول الاتحاد الأوروبي، والنرويج، زخمًا للاعتراف بدولة فلسطينية من قبل دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، ويمكن أن تُحفز المزيد من الخطوات في الأمم المتحدة، ما يعمق عزلة إسرائيل.. فماذا تفعل إسرائيل، وقد وجدت نفسها أيضًا، في مواجهة الدولة المصرية، التي تهدد بتجميد اتفاقية كامب ديفيد، إذا واصلت تل أبيب جريمتها في قطاع غزة، أو أنها دفعت الفلسطينيين، في هجرة قسرية، باتجاه الأراضي المصرية، وكذلك تهديدها بالانسحاب من أي مفاضات للهدنة في غزة؟
خرج المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاجاري، في حوار مع قناة (الحرة)، قبل أيام، ليعلن أن مصر (دولة مهمة بالنسبة لإسرائيل)، وأن بلاده (تعمل على ألا تتسبب العملية المعقدة في رفح، إلى دفع المدنيين للتوجه نحو حدود مصر.. مع أن المنطقة معقدة، لأنها بالقرب من الحدود المصرية، ومصر بلد مهم لنا ويقوم بوساطة في مفاوضات الرهائن).. كما أشار المحلل الإسرائيلي، أمير أورن، في تصريحاته لموقع (الحرة)، إلى أن (مصر أعلنت تهديدها الأخير بالانسحاب، مع أن موقف إسرائيل كان أكثر مرونة في المفاوضات.. ويبدو أن لدى إسرائيل تعاونًا أفضل مع مصر بشأن ممر فيلادلفيا.. لا بديل للدور المصري في الوساطة.. من يمكنه القيام بهذا الدور؟.. فهل كانت مصر جادة في تهديدها بالانسحاب من دور الوسيط في المفاوضات بين حماس وإسرائيل؟

صحيح أن التوترات المصرية ـ الإسرائيلية لا تتوقف، منذ بدء العملية العسكرية في رفح، حيث سيطرت إسرائيل على الجانب الفلسطيني من المعبر البري، قبل أن تخرج القاهرة وتهدد بالانسحاب الكامل من وساطتها في مفاوضات وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المختطفين، إلا أن القريبين من الدائرة، يرون أنه (من الصعب) أن تنسحب مصر من دورها في الوساطة، حيث (تُفضلها) إسرائيل على ما عداها، و(لا يمكن لأحد أن يقوم بدور القاهرة، في ظل أنها المنفذ الوحيد لقطاع غزة على العالم، بجانب إسرائيل)، وما كان من أكاذيب تم ترويجها حول الدور المصري، إلا محاولة لعقاب مصر على مواقفها المبدئية الثابتة تجاه الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، في ظل قيامها بدور الوساطة.. التهديد المصري بالانسحاب موجه للجانب الإسرائيلي، لأن مصر مستاءة من حجم ما أُذيع في الأيام الماضية، حول وجود عملية حذف بند وغيره خلال المفاوضات، وتسريبات في الإعلام الإسرائيلي تتحدث عن التنسيق مع مصر بشأن احتلال إسرائيل معبر رفح، والسماح بوجود عسكري إسرائيلي فيه، وأيضًا بممر صلاح الدين أو فيلادلفيا.. هذه الأمور ترفضها القاهرة، وترى أنها غير مقبولة ومرفوضة تمامًا.

لكن أحدًا من المحللين لم ير إمكانية انسحاب مصر من الوساطة، في وقت تتشارك فيه قطر هذا الملف بجانب الولايات المتحدة.. القاهرة لن تنسحب، لكنها توجه رسالة لكل الأطراف، بأنها مستمرة في موقفها، وإذا حدث أي تجاوزات إسرائيلية وغيرها، فسيكون لها موقف فيما يتعلق بالمفاوضات.. فالجانب القطري ـ وليس هذا تحيزًا لبلادي، بل هي الحقيقة ـ لا يمتلك تأثيرًا كتأثير المفاوض المصري، خصوصًا بعد ما هاجمت إسرائيل قطر بسبب استضافتها قادة من حماس، واتهمتها كذلك بتمويل الحركة الفلسطينية.. وفي أبريل الماضي، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، أن الدوحة بصدد (تقييم) دور الوساطة الذي تؤديه منذ أشهر بين إسرائيل وحركة حماس.. جاء التهديد القطري بعد تصريحات لعضو الكونجرس الأمريكي، الديمقراطي، ستيني هوير، قال فيها إنه (إذا فشلت قطر في ممارسة الضغط على حماس، فإن الولايات المتحدة لا بد أن تعيد تقييم علاقتها مع قطر).. واعتبرت السفارة القطرية في واشنطن، في بيان حينها، أن هذه التصريحات من عضو الكونجرس (غير بناءة.. فقطر وسيط فقط، لا نتحكم في إسرائيل أو حماس.. حماس وإسرائيل هما المسئولتان الوحيدتان عن التوصل إلى اتفاق).. إسرائيل (لن تتنازل عن الوساطة المصرية، وتفضلها عن الوساطة القطرية).. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.