شركاء لا وسطاء
تابعنا على مدار عدة أشهر مضت ذلك الموقف المصري المحترم تجاه الأزمة الحالية في فلسطين عامة وفي غزة خاصة. موقفًا لم تنكر مصر أنه ينطلق من ثوابتها الوطنية وهويتها العروبية وصون مقدرات الإخوة الفلسطينيين وحرصها على حفظ أرواح الأبرياء في الطرفين. ثم جاء قرارها بالسعي بين الطرفين لحقن الدماء وإعلاء صوت العقل والإنسانية ووقف العدوان الهمجي على المدنيين. شاركتها هذا الموقف النبيل أطراف أخرى فاعلة، وهو موقف جاء استجابة لإلحاح شركاء دوليين طلبوا أن تطّلع مصر بقيمتها الكبيرة وثقلها التاريخي بدور فاعل لحلحلة تلك الأزمة التي أُزهقت خلالها آلاف الأرواح وتشرد الملايين.
وبالفعل، تعاملت وزارة الخارجية وغيرها من الأجهزة الوطنية المصرية المعنية بملف الصراع العربي الإسرائيلي باحترافية شديدة جدًا مع الأزمة أهّلتها لها خبراتها الواسعة وكفاءة مفاوضيها في فن التفاوض وخاصة مع الطرف الإسرائيلي، وعلاقاتها المتوازنة مع كل الأطراف، سواء أطراف الأزمة والمتسببون فيها أو الشركاء من الأطراف المحايدة التي تسعى لحقن الدماء والحفاظ على ما تبقى من أرواح المدنيين الأبرياء ومقدراتهم.
وخلال تلك المدة الطويلة لم يصدر صوت مصري واحد يقول: "و ما لنا والأمر؟ هي أزمة إقليمية لا شأن لنا بها"! لم ولن يحدث هذا، فحاشا لمصري أن يكون هذا موقفه تجاه قضية العرب الأولى، مهما واجهنا من ظلم أو حيف أو جهل أو تشكيك. مصر العربية شعبًا وحكومة وقيادة تنطق بصوت واحد يدعم الأشقاء، وينصف الطرف المظلوم تاريخيًا، وينادي بالسلام ويسعى للاستقرار. فشعوب المنطقة عانت من تداعيات الحروب والصراعات لعقود طويلة، وآن لها أن تسعى للبناء، وأن تُعلي صوت العقل والحكمة، بديلا عن صوت المعركة التي طالت كما لم تفعل حرب مماثلة أو صراع على مدار التاريخ الإنساني.
ورغم ذلك الدور الذي لا تمُن به مصر على أحد- فهو قدرها أن تكون في قلب أكثر مناطق العالم سخونة سياسيًا واضطرابًا أمنيًا - تخرج بعض الأصوات المنكرة لتُحمّل مصر مسئولية تطور الأحداث وعدم حل القضية!! بل وتُشكك تلك الأقلام المأجورة في نزاهة المفاوض المصري!! نعم، نحن نقوم بدورنا دون انتظار لثناء أحد، ولكننا في ذات الوقت لا يمكن أن نقبل اتهامًا أو تشكيكًا أو تضليلًا من أحد أيًا كان هو أو من استأجره.
لم تكن مصر وسيطًا وحيدًا في عملية التفاوض، بل كان معها منذ اليوم الأول شركاء كقطر والولايات المتحدة، فلا يمكن مع هذا أن نفهم لماذا تحرص بعض الأقلام المأجورة والأصوات المنكرة على الزج باسم مصر في محاولة تبرير تعثر المفاوضات، وهل هذا هو جزاء من يتصدى للحل محاولًا حقن الدماء بكل إخلاص وتجرد؟ ولماذا لم يلُم هؤلاء تلك الأطراف ذات التأثير القوي على الجانب الإسرائيلي حتى يمتثل للنتائج التي تخرج بها مفاوضات طالت كثيرًا؟
فمصر المفاوض النزيه الذي لم ينحز إلا لصوت العقل، ولم يتبن إلا الدعوة لحقن دماء الأبرياء من الطرفين، ولم يزود أيًا من المتحاربين بقطعة سلاح، ولم تغلق معبرًا كانت تراه منفذ النجاة الوحيد الذي يوفر الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية اللازمة حتى يبقى المحاصرون على قيد الحياة. إنها مصر التي تتعامل بوجه واحد أمام العالم كله، فحين قررت قديمًا أن تمُد يدها بالسلام، اتخذت الموقف عيانًا بيانًا أمام الجميع وتحمّلت التداعيات والاتهامات من أقرب الأشقاء، حتى ثابوا إلى رشدهم وأقروا بصحة القرار المصري، بل واتخذوه منهجًا لهم بقرار واضح وصريح من القمة العربية ذاتها.
يا عقلاء العالم احفظوا لمصر سبقها، واذكروا لها دورها وقدّروا لقيادتها دعوتها الدائمة إلى إعلاء قيم التسامح ولا تتجاهلوا خيارها الدائم بأن تتعامل مع العالم كله بوجه واحد لا يستجيب للغة المنفعة، ولا يرضخ للضغوط أو التهديدات، فمصر قوية بما يكفي لحفظ أمنها والدفاع عن قرارها والذود عن مواقفها.