كذاب «ثقيف»
ثمة حديث روته السيدة أسماء بنت أبى بكر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنها قالت للحجاج بن يوسف: أما إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حدثنا أن فى ثقيف كذابًا ومبيرًا، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. والسؤال: من هو الكذاب؟ يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» إن ثمة قولًا متواترًا بأن الكذاب هو المختار بن أبى عبيدالله، ويستطرد فى الحديث عنه مشيرًا إلى أنه كان نائبًا على العراق، وكان يزعم أنه نبى، وأن جبريل كان يأتيه بالوحى. يؤشر كلام «ابن كثير» إلى أننا بصدد شخصية شديدة الإثارة، اختلفت حولها الأقوال، فهناك من يمتدح سيرته، خصوصًا المتشيعين لأهل بيت رسول الله، والمجموعات التى طالبت بالثأر لما حدث للحسين وأهل البيت فى كربلاء، وسعت فيه، وقد أشعل المختار نار الثأر للحسين، وتمكن من رقاب أكثر من شاركوا فى قتله. وهناك من يقدح فى سيرته وتجربته، وما فعله من أفاعيل فى قتلة الحسين بن على، رضى الله عنه، وأغلبهم من أهل السنة المنكرين على الشيعة أفكارهم وآراءهم.
إنه الانقسام الخالد الذى طال المسلمين بعد استشهاد الحسين فى كربلاء، وأدى إلى شق الصف المسلم إلى الأبد. الانقسام الذى بدأت رحلته مع ارتفاع الأصوات المطالبة بالثأر لدم حفيد النبى. فكرة الثأر أصبحت فكرة مركزية فى الوجدان الشيعى تمامًا مثل فكرة «الشعور بالذنب» لخذلان الحسين، وصاحبت هذه الفكرة الشيعة منذ كربلاء وحتى الآن، ويلخصها شعار «يا لثارات الحسين» الذى رفعه سليمان بن صرد- أحد شيعة الحسين- ذات يوم. ومثلما كانت مذبحة كربلاء نقطة فاصلة فى تشكل تيار التشيع، كانت ثورة «المختار بن أبى عبيد» لحظة فارقة فى تاريخ الدم ما بين الشيعة والسنة، وقد قام «المختار» بهذه الثورة بغطاء شرعى من محمد بن على بن أبى طالب «محمد بن الحنفية». وكان يقول للناس: «جئتكم من عند المهدى محمد بن الحنفية وزيرًا أمينًا».
وضع «المختار» واحدة من أهم القواعد التى تحكم أداء أحفاد الحسين فى منابذة أحفاد يزيد، قاعدة «عدو عدوى صديقى». كان «بنو أمية» أعداءه الألداء، فسعى إلى التحالف مع أعدائهم حتى لو كانوا على غير هواه الشيعى، كما حدث حين تحالف مع عبدالله بن الزبير، الذى ناصب «المختار» العداء، لكنه كان مثله فى عداء بنى أمية. استطاع «المختار» أيضًا حشد الكثير من الأتباع والأشياع ليخوض بهم معركة «الثأر للحسين». ومع زيادة عدد أشياع وأتباع «المختار» كان من الطبيعى أن يبدأ أمره فى التكشف والظهور، خصوصًا أن شرطة بنى أمية كانت تعمل بكامل قوتها. يشير صاحب «البداية والنهاية» إلى أنه: «لما اجتمعت الشيعة على المختار وكثر أصحابه وبايعوه فى السر، جاء صاحب الشرطة، وهو (إياس بن مضارب البجلى)، إلى ابن مطيع (والى الكوفة) فقال له: أنا لست آمن من المختار، فابعث إليه فاردده إلى السجن، فإن عيونى- يقصد جواسيسى- قد أخبرونى أن أمره قد استجمع له، وكأنك به وقد وثب فى المصر (الولاية). فبعث إليه عبدالله بن مطيع (زائدة بن قدامة) وأميرًا آخر معه، فدخلا على المختار، فقالا له: أجب الأمير، فاعتذر بمرضه».
عزم «المختار» على الخروج لطلب الأخذ بثأر الحسين، فاجتمعت عليه الشيعة وثبطوه وطلبوا منه التأجيل إلى وقت آخر، ثم أرسلوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه، فلما اجتمعوا به، كان ملخص ما قاله: إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوى أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبى عبيد وتوحد تحت رايته الفرقاء من المطالبين بالثأر لدم الحسين. تمتع «المختار» بمواهب خاصة للغاية فى الخطابة وبلاغة القول، وقد استخدم هذه المواهب فى إقناع من حوله وتغييبهم، ودفعهم إلى طاعته، ولم يتوان عن أن يعلن غير ما يبطن فى مواقف عديدة، ليضع بذلك واحدًا من أهم المبادئ التى تحكم الفلسفتين الدينية والسياسية للشيعة، وهو مبدأ «التَقِيَّة» التى تبرر للشيعى أن يظهر للآخرين غير ما يبطن حتى يدرأ الخطر عن نفسه.
كان «المختار» يستخدم كل الحيل ويلتمس كل السبل التى يمكن أن تصل به إلى هدفه فى الثأر للحسين، سواء بالحيلة أو المخادعة أو الملاينة أو الحلف بالكذب، ولم يكن «المختار» بدعًا فى ذلك، بل كان ابن عصره وظروفه والتجربة السياسية التى عايشها، فلم يكن خصومه من الأمويين يترددون هم الآخرون فى استخدام نفس الوسائل، كانت كل الأطراف تطبق بامتياز قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة»، حتى ولو كانت هذه الوسيلة هى الكذب، وحنث الأيمان، ونبذ العهود والوعود. وهى أدوات أساسية يجيد استخدامها من يستهدف حشد وتعبئة الناس من أجل تحقيق هدف معين، وقد استطاع «المختار» عبر هذه الوسائل حشد الكثير من الأتباع والأشياع ليخوض بهم معركة «الثأر للحسين».
شرع «المختار» فى تتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله. وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة، وكان ممن هرب بسبب استهدافه «شمر بن ذى الجوشن» قاتل الحسين، فبعث المختار فى أثره غلامًا يقال له «زرنب»، فلما دنا منه قال «شمر» لأصحابه: تقدموا وذرونى وراءكم بصفة أنكم هربتم وتركتمونى، حتى يطمع فىّ هذا العلج، فسبقوا وتأخر شمر، فأدركه «زرنب» فعطف عليه «شمر» فدق ظهره فقتله. وكان مقتل «شمر» بداية النهاية لكل من ساهم فى قتل الحسين بن على، وبداية النهاية أيضًا للرجل الذى خرج يطلب الثأر من قتلته: «المختار بن أبى عبيدالله»!.