العبوا غيرها.. فنحن نعرف عدونا
علمتنا التجارب، فعرفنا جيدًا منذ عام 2011 المعنى الحقيقي لتعبيرات على شاكلة الاصطفاف الوطني أو اللُحمة الوطنية، إذ كان هناك من المواقف والأحداث ما يدعونا إلى استيعاب معانيها، بل والمناداة بها إدراكًا لأهميتها. ومع تولي سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي سُدة الحكم بدأت مرحلة جديدة نحو استقرار أحوال البلاد السياسية، وتطّلع الجميع لبناء الجمهورية الجديدة التي أخذت ملامحها في الاتضاح رويدًا رويدًا.
ولكن، لأننا في إقليم سياسي ملتهب يموج بالتغيرات وتستهدفه المكائد والأطماع والمؤامرات، فقد عادت من جديد مخاوف البعض وقلقهم على الأوضاع الداخلية تأثرًا بالأحداث الخارجية في تلك المنطقة المضطربة سياسيًا والمشتعلة عسكريًا والقلقة أمنيًا. من حق الجميع أن يقلق، وهذا أمر لا ننكره على أحد، فقديمًا قالوا في المثل الشعبي “من خاف سلم”، غير أن مشاعر القلق تلك لن يكون لها مكان في قلب كل من وعى تاريخ بلدنا وأدرك قيمته ومكانته وقدراته العسكرية التي تصون ولا تبدد، والتي تحمي ولا تهدد.
ومع ذلك يبقى على كل فرد في هذا الشعب العريق- أيًا كانت وظيفته أو مكانته أو مستوى تعليمه وثقافته- دور إن التزم بأدائه على أكمل وجه، ضمن الأمان ووقى نفسه من القلق على أهله وماله ومستقبله، بل اطمأن على وطنه كله. إنه الاصطفاف الوطني، ذلك المصطلح الذي حمى به المصريون وطنهم من المكائد التي صاحبت أو لحقت سريعًا بالخامس والعشرين من يناير، فتداركوا الخطر قبل أن يدمر الأخضر واليابس، وأنقذوا سفينة الوطن قبل أن تغرق، إذ تم تصحيح التوجه واسترداد الإرادة الوطنية في الثلاثين من يونيو.
واليوم ونحن نرى شبح المؤامرة على حدودنا الشرقية- تلك التي استنزفت منا أموالًا عطلت مسيرة التنمية في بلادنا كثيرًا، وحصدت أرواحًا طاهرة من خيرة شبابنا منذ عام 1948 حتى أمد قريب- فإن اليقظة صارت أمرًا حتميًا، والاستعداد لكل الاحتمالات أمسى فريضة وطنية، والاصطفاف خلف قيادتنا الرشيدة أصبح خيارًا استراتيجيًا، خاصة ونحن نثق في صحة مواقف هذه القيادة وندرك حكمتها.
كانت- ولا تزال- لنا طموحات تنطلق من أرضية وطنية مشتركة، تتمثل في مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية مشروعة ومستحقة، علا بها صوت الشرفاء في مسار ديمقراطي، فاستجابت لها السلطة، إذ أعطى السيد الرئيس توجيها ببدء حوار وطني امتدت جلساته واتضحت ملامح مخرجاته، وأحدث حراكًا في الأوساط السياسية، وناقش ملفات في غاية الأهمية، ولا تزال رغبة القيادة صادقة في تحقيق المزيد من الإصلاحات التي تتسق مع توجهات الجمهورية الجديدة ومواقفها.
ولكن، ليس لنا اليوم أن نبالغ في مطالبنا، أو بالأحرى في صور التعبير عنها، فالأولوية اليوم تقتضي الانتباه لأمننا القومي المستهدف شرقًا وجنوبًا وغربًا، بل وشمالًا أيضًا. هذا هو هاجسنا الأول والأهم اليوم، ورغم أننا نمتلك قوة نزود بها عن حدودنا أرضًا وبحرًا وجوًا، إلا أن جبهتنا الداخلية تبقى هي الأولى باليقظة والانتباه، إذ ليس لدينا اليوم رفاهية ما كان متاحًا قبل أشهر. وأراهن على وعي الشعب المصري الذي بات يعرف عدوه الحقيقي ويدرك خبث نواياه ويفهم خطط أدواته، ومن ثم أصبح الشعب هو الداعم الأول لوطنه بإخلاص ومحبة دون انتظار مقابل، إذ يكفينا شرف الانتماء لبلد عزيز مهاب.
ونحن في هذا نتأسى بجيل الآباء فترة الاستنزاف، إذ تحمّلوا أعباء كثيرة، وتجاوزوا مطالب شخصية مُلحة وأجلوا أحلام جيلهم كله حتى تحقق المطلب الوطني الأسمى، وهو استعادة الكرامة الوطنية بتحقيق النصر لتعويض ما حدث في يونيو 67. حينئذ، صبر الجميع واجتهد الكل- حكامًا ومحكومين- وآمنوا، بل وعملوا بالقول المأثور "إنما النصر صبر ساعة"، إلى أن تحقق النصر المبين الذي استعاد معه الشعب ثقته في قدراته، وكان ذلك النصر صنيعة الجميع وجاء ثمرة لإخلاص كل المواطنين.
لم أعد التفت إلى تلك المعارك الجانبية المفتعلة التي يصنعها البعض لننصرف بها عن دعم وطننا، أو لننشغل عن قضايانا الكبرى، فظهور أو إنشاء تحالف ما، أو تأسيس أي "تكوين" التبس على الناس أمره، كلها أمور ليست بالقضايا المقلقة طالما كانت هناك دولة قوية يحسن رجالها تقدير المواقف ولديهم آليات لإدارة كل شئون الوطن، أما الأخطر والأولى بالاهتمام اليوم وغدا فهو ما يحاك بليل لضرب الاستقرار الداخلي والسلم الاجتماعي بتهديد الأمن القومي وإلهاء المواطنين عن معارك على الحدود يواكبها شواغل داخلية هدفها صرف الناس عن الخطر الحقيقي.
نحن بحمد الله شعب قديم قدم التاريخ فلا يمكن لبعضهم استدراجه إلى ميدان لا يضمن فيه الصدارة، أو الزج به في معركة تُفرض عليه ويكون انتصاره فيها أمرًا محل شك. علّمتنا قرون عشناها أن اختلافنا مع بعض الرؤى والمواقف أمر مقبول؛ لأننا دولة مؤسسات، أما أن نختلف على ثوابت نشأت عليها دولتنا أو أن نرضخ لوقيعة تهدد مستقبلها فهذا ما لم ولن تجدوه في شعب مصر ذلك الشعب العريق الذي نشأت مؤسساته وانتظمت دولته ورسخت تجربته منذ آلاف السنين.