رحلة إلى القصر.. والبلاط والطيبة
سعدت مطلع هذا الأسبوع بوجودى فى الواحات الداخلة بالوادى الجديد، وسط مجموعة رائعة من المشغولين بحماية التراث فى المناطق المنسية فى مصر، ما إن وصلت إلى مدينة «موط» حطت علىّ سكينة لم أعرف مصدرها، شوارع هادئة ونظيفة، ووجوه مبتسمة ومرحبة، و«موط» هذه رغم بعدها فإنها تواصل النمو، وتشعر بأن سكانها سعداء ببعدهم عنّا، يمتد تاريخ مدينة أو واحة موط عبر قرون إلى عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، وهو تاريخ لوحة المياه الشهيرة التى تزين معبد الإله آمون، أحد الآلهة القديمة فى مصر الفرعونية، «موط» هو اسم زوجة الإله آمون، وهناك من يطلق عليها اسم «أم الآلهة»، وتمثل «موط» مقصدًا سياحيًا يجمع بين السياحة التاريخية وسياحة الاستشفاء وسياحة السفارى، على بعد ٣٥ كيلو تقع مدينة القصر الإسلامية التى شهدت الاحتفالية التى دُعيت لحضورها، وهى من أعرق المدن الإسلامية على الإطلاق، واكتسبت أهميتها من موقعها كطريق للحجاج والقوافل القادمة من بلاد المغرب فى طريقهم إلى الأراضى الحجازية، ويوجد بالمدينة التى كانت عاصمة للواحات مسجد يرجع تاريخه إلى القرن الأول الهجرى يسمى بمسجد نصر الدين الذى يوجد ضريحه داخل المسجد، والذى ترتفع مئذنته لـ٢١ مترًا، وتعود للعصر الأيوبى، ولا تزال تلك المئذنة محتفظة بمعالمها المعمارية رغم بنائها بالطوب اللبن، وحكى لى الباحث والشاعر مصطفى ضبع، ابن المدينة الذى ولد وتربى بين جدرانها، أن سبب تماسك هذه المئذنة حتى الآن هو استخدام بقايا الزيتون مع الطين، ما أدى إلى صلابة ونعومة ملمس المئذنة، كما توجد داخل المسجد أعتاب خشبية منقوشة عليها آيات من الذكر الحكيم، وامتد العمران بالقصر حتى العصر العثمانى، وللمدينة تخطيط هندسى مميز، حيث تم تقسيمها أحياء وحارات، يغلق كل حارة باب كبير، وكان للقرية عشر بوابات تغلق على حاراتها ليلًا، وقد سميت الحارات على أسماء العائلات التى تسكنها، فهناك حارة الحبانية والنجارين والحدادين والفخارية، ومهنة الفخار لا تزال موجودة حتى الآن، وتم تسجيل شوارع ومنازل المدينة بالكامل أثريًا، نظرًا لأهميتها المعمارية والأثرية، كما توجد بها محكمة قديمة للفصل فى منازعات أهل المدينة، ومدرسة لتعليم صغارها، وعصارة للزيتون، وطاحونة كبيرة لطحن القمح، فى هذه المدينة أنت فى زمن آخر تشم رائحة التاريخ والطيبة أيضًا، سألت عن غياب السياح عنها، قيل لى إنها كانت مقصدًا أساسيًا لهم حتى ٢٠١١، وإن الاتحاد الأوروبى «أو شيئًا من هذا القبيل» اعتبرها من الأماكن غير الآمنة، ولم تصحح الخارجية المصرية لهم المعلومة أو لم تعرف حتى الآن. ذكرتنى «القصر» بمدينة تشبهها تمامًا فى صحراء تاغيت فى الجزائر فى الحدود مع المغرب، كنت ضيفًا مع وفد من جريدة الأهرام للاحتفال بالثورة الجزائرية، وركبنا طائرة حربية لمشاهدتها، المدينة الجزائرية التى جرب فيها الاستعمار الفرنسى الوحشى أول قنبلة نووية، لا تمثل ربع مدينة القصر، ومع هذا يذهب إليها السياح رغم مشقة الطريق أيضًا. فى المساء، وفى ساحة أمام المدينة، استمتعت مع أهل المدينة بغناء وقصائد مديح من الفنان على الهلباوى، وبعرض نظمته مؤسسة النهار بقيادة سمية عامر صديقتنا بنت «موط»، يحكى طقوس الزواج فى المدينة، شارك فيه أهلها من الرجال والنساء، وكان للطرق الصوفية فقرة فى غاية العذوبة، وفقرة لمواهب الصغار، حالة فرح حقيقية حوطت المكان، جمهور من كل الأجيال، مشقة السفر هانت أمام هذه الحالة الجميلة التى حولتنى إلى طفل أبهرته جغرافية المكان، وطلاوة الألسنة، ورغبة الجميع فى التعبير عن نفسه بتلقائية. أثناء السامر يوزع جيران المكان التمور على الجمهور، المثلج منها والجاف، مصطفى ضبع يلعب دورًا كبيرًا فى تعليم الأطفال فى المدينة، من خلال المسرح وفنون الإلقاء، بدون دعم من أى جهة حكومية، وأتمنى أن يذهب أحباؤنا فى هيئة قصور الثقافة ومركز ثقافة الطفل والحريصون على إشاعة المناخ الإبداعى فى البلد إلى هناك، إلى بقعة من مصر، بعيدة جغرافيًا، ولكنها قريبة إلى القلب، يوم الأحد زرت «البلاط» التى تبعد عن موط ٣٥ كيلومترًا، وهى الأخرى مدينة إسلامية متكاملة بشوارعها ودروبها وحواريها ومنازلها، مشيدة فوق ربوة عالية، وهى المدينة التى صور فيها رضوان الكاشف فيلم «عرق البلح». الاتزان البيئى سمة أساسية فى البناء، يظهر ذلك فى تخطيط البلدة وشوارعها وتخطيط منازلها، فتلاصقت المبانى وتدرجت مقاييس الشوارع، وأصبح الفناء المكشوف عنصرًا رئيسيًا فى التخطيط المعمارى، واستخدامهم مواد بناء متوافرة مثل الطوب اللبن المخفف لدرجة الحرارة، إضافة إلى سمك الجدران ومراعاة ضيق الطرق وارتفاع المبانى على جانبيها، ما ساعد على وجود الظل على الطرقات والمبانى بعضها البعض، وبالتالى تخفيف درجة الحرارة. المنطقة طبقات من التاريخ الفرعونى الرومانى المسيحى الإسلامى، وكانت ملاذًا للهاربين من الاضطهاد فى كل العصور.. مصر جميلة خليك فاكر.