رفح.. الفرصة الضائعة
لم يكن إعلان الجيش الإسرائيلي إخلاء جزء من رفح نحو منطقة إنسانية، والذي لم يمر عليه سوى ساعات، إلا إبداء وتأكيدًا لنية تل أبيب المبيّتة لاقتحام المدينة الفلسطينية، بذريعة العمل ضد القصف الحمساوي، غير المفهوم توقيته أيضًا لمعبر كرم أبو سالم.
استمرار التوجه الإسرائيلي لاقتحام رفح الفلسطينية يؤكد أن بنيامين نتنياهو رئيس وزرائها يسير نحو الجنون الكامل، فهو لا يشعل فتيل الحرب في حدود غزة فقط، لكنه يمد نيرانها إلى ما بعد تلك المساحة، وينثرها بسرعة اللهب في المنطقة بأكملها، والتي ستؤثر على كل العالم من مشرقها إلى مغربها.
رفح الفلسطينية، التي تبلغ مساحتها 64 كم مربعًا، يعيش بداخلها الآن أكثر من 1.2 مليون فلسطيني نازح منذ بداية الحرب الإسرائيلية، والآلاف من جثث الشهداء التي كلما تمت أعمال إزالة لأي أنقاض وُجد أسفلها مقابر جماعية بفعل العمليات العسكرية للاحتلال.
لم يكف أنه تم وضع كل هؤلاء الفلسطينيين في مساحة مثل "علبة الكبريت"، بينما توجيه الجيش الإسرائيلي، صباح اليوم، بإخلاء نحو 100 ألف فلسطيني فقط من رفح إلى ما أسماها بـ"المنطقة الإنسانية"، ذلك المسمى الذي أطلقه من قبل على رفح ذاتها، ينذر بخطورة التهور الذي تتبعه تل أبيب الآن.. فماذا ستجني بالفعل من عملية دخول المدينة؟
تدعي إسرائيل، وتحديدًا نتنياهو وأعوانه، أن الهدف هو تدمير آخر قوات حماس داخل المدينة، وتصوير أنها تقضي على ما تبقى من شرور على الأرض وتحتها، ولكن في حقيقة الأمر، تأمل أن تسير بشرورها إلى المنطقة كلها.
مجموعة الأهداف الإسرائيلية من تنفيذ أي عملية في رفح تنذر بحرب لن يتحمل نيرانها أو توابعها أحد، فعلى مستوى القطاع، ستزيد من حدة الأزمة الإنسانية والمجاعة التي يعيشها الفلسطينيون المدنيون العزل الذين يتحذون من رفح ملاذًا آمنًا، بينما تجهز تل أبيب لتحويله إلى مقبرة جماعية جديدة.
وعلى المستوى الإسرائيلي، تزحف تل أبيب نحو مخطط التهجير مغلفًا بنية القضاء على حماس، وهو هدف بعيد المنال، وليس الهدف الوحيد أيضًا، وربما ليس هو الهدف من الأساس، وهو الأمر المعلوم لدى الجميع، شمالًا وجنوبًا، حتى لأقرب وأهم حلفائها، أمريكا.
أما على مستوى المنطقة، تشعل إسرائيل حربًا متعددة الأطراف والجبهات، وتدرك ذلك جيدًا، فدخول رفح يحرك كل الأوراق في المنطقة، سواء الحركات داخل كل الأراضي المحتلة، أو أذرع إيران في المنطقة، مثل: لبنان وسوريا واليمن.
وعلى حدود رفح الفلسطينية، تقف مصر بكل جهودها، سواء عبر عملية التفاوض أو على الأرض، تعمل دون هوادة من أجل إخماد تلك الحرائق، وتعمل على إدخال المزيد من المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى الفلسطينيين، وكانت تقترب بخطى ثابتة ومكثفة من إتمام اتفاق يقضي بإطلاق سراح المحتجزين في غزة، والعودة لحالة الهدوء.
وطوال ثمانية أشهر كاملة، لم تهدأ أبدًا الجهود المصرية في عملية التفاوض والوساطة النزيهة بين إسرائيل وحماس؛ من أجل وقف إطلاق النار، واستطاعت أن بالفعل أن تُفعِّل وضع الهدوء في القطاع لأكثر من أسبوع، ولكن في كل مرة تتجه حماس وإسرائيل إلى توتر غير محسوب، لكن يبدو أنه مخطط سلفًا.
بالتأكيد مصر مستعدة للتعامل مع أي سيناريو، وعلى أي مستوى يقتضي العمل به، حفاظًا على سيادتها، ودرءًا لأي مخططات "غير قابلة للتنفيذ" من الأساس، وكذلك من أجل تجنيب المنطقة بأكملها حربًا لن ينجو منها أحد.
أليس بين أروقة "قلعة نتنياهو" رشيد يوقف ما يحدث؟ هل اتفقوا على إشعال كل حدود إسرائيل دفعة واحدة؟ جنوبًا وشمالًا وشرقًا وغربًا، فحتى مصالح إسرائيل حول العالم لن تكن بمعزل أبدًا عن تلك الحرب.
لن تتحمل إسرائيل، أو المنطقة، ويلات أي أفعال جنونية قد يتم ارتكابها في رفح، فأي تهور ينذر بمجموعة كوارث ستحل دفعة واحدة، وستحرق مستقبلًا تحتاجه تل أبيب ذاتها، قبل أن تجد نفسها تعود إلى الوراء نحو 50 عامًا، وربما لن تجد فرصة أخرى للذهاب إلى المستقبل.