«شقة بثينة» عرض بين الصالون والريسيبشن والمطبخ
ما زال شباب المسرح المصرى يمتلكون مفاتيح نتوهم أحيانًا أنهم ضيعوها... إنها مفاتيح المسرح.. إنها مفاتيح «شقة بثينة».
بدافع الشغف بالفن والمسرح، قدمت مؤسسة «مرتجل» للاستشارات الفنية والتدريب تجربتها المسرحية الجديدة والمثيرة «شقة بثينة» التى جاءت نتاج ورشة مسرحية عن «مسرحة المكان»، فما المقصود بـ«مسرحة المكان» وما هى «شقة بثينة»؟
المسرح هو فرجة، وأينما وجدت أطراف الفرجة «مؤدٍ ومتفرج ومكان» وُجد المسرح، لذا بدأ شباب المسرح، فى ظل أزمة ندرة الفضاءات المسرحية وأماكن العرض، وارتفاع سعر إيجار المسرح، إلى الحلول والأماكن البديلة.
هم لديهم الموهبة والفكرة والمؤدون، ولديهم احتمالات لا تنتهى من الفضاءات غير التقليدية، إذ يمكنك تقديم عرض مسرحى فى الشارع أو «الباركينج» أو الحديقة أو «بير السلم» أو محل، طالما توافرت أدوات العرض.
ويحتاج هذا النوع من العروض إلى مؤدٍ تدرب تدريبًا جيدًا على أدائه، وعلى الاشتباك مع جمهور لم يعتد هذا النوع من التلقى الذى تتداخل فيه الأدوار، وكذلك جمهور الصدفة الذى يشتبك معه المؤدى فى الشارع.
لذا أعلنت «مرتجل» عن ورشة فى «مسرحة المكان»، حيث يدرب المدرب ومخرج العرض الممثلين على كيفية أداء وتقديم هذا النوع من العروض، ليتقمص الممثلون شخصياتهم الدرامية، ويرتدوا ملابس وإكسسوارات الشخصية، وينزلوا إلى الشارع للتعامل مع الجمهور فى المقاهى والحدائق، الجمهور لا يعرف أنهم ممثلون، وأن تلك المواقف الكوميدية أو التراجيدية التى يشتبكون معها مشاهد تمثيلية قصيرة يؤديها ممثلون فى إطار التدريب.
ثم جاءت التجربة الأكثر إحكامًا فى إطارها المكانى، وهى تجربة «شقة بثينة»، حيث الجمهور هنا واعٍ، ذاهب على نحو قصدى إلى عرض مسرحى، لكن فضاء هذا العرض ليس تقليديًا اعتاده هذا الجمهور، بل عبارة عن شقة يجلس الجمهور فى أروقتها، مرة فى الصالون، وأخرى فى «الريسيبشن»، وثالثة فى المطبخ، ورابعة فى حجرة المكتب، ليتجول مع أبطال العرض فى غرفها بحرية، حتى ينسى بعد قليل أنه متفرج، ويعتقد أنه أحد القاطنين فى هذا المنزل، وإما من أفراد الأسرة أو ربما من الجيران.
تبدأ أحداث المسرحية بأفراد أسرة «بثينة»، وقد عادت للتو من جنازتها، ما بين منهار من البكاء وآخر يعتصره الألم، ثم يأتى فاصل زمنى، وبعده نجد من يحاول الدخول إلى الشقة، بينما المفتاح الذى أصابه الصدأ يجعل المحاولة عسيرة، حتى تنجح «مروة» بنت «بثينة» وزوجها «على» فى الدخول إلى الشقة.
نفهم من حوار «مروة» و«على» أن سبب الزيارة هو محاولة لاستعادة الأحداث، خاصة يوم موت «بثينة»، و«على» يكتب روايته الأولى عن «شقة بثينة»، لتتكشف لنا الأحداث والعلاقات داخل هذه الشقة.
فـ«بثينة» أم تحاول أن تلم شمل أسرة، والأب كثير الانتقاد لها حتى يبدو أن لا شىء يعجبه، وقد أصابه الملل، وتراوده الرغبة فى أن يهجر المنزل، والابن متزوج من زوجة غير اجتماعية على وشك مغادرة المكان بمجرد أن يستلم شقته التى سيستقل بها عن أسرته، وهو ما يتوقف على توفر دفعة مالية معه.
وهناك ابن ثانٍ يحلم بالسفر، وابنة تحب شابًا لكنه ينتقد وزنها، ما يجعل الأم تظن أن ابنتها ستلقى نفس مصيرها بالزواج من رجل ضجر كثير الشكوى، فتحاول أن تبعدها عن هذا الشاب، ثم يتضح لنا فيما بعد أن الشاب «على» كان يحب البنت، هو فقط يخاف على صحتها، ويخشى من أنها مصابة بالاكتئاب على نحو يدفعها إلى الأكل بشراهة دون استمتاع.
تتوالى الأحداث اليومية والحوارات حتى نصبح، دون أن ندرى وعلى نحو تدريجى، جزءًا من هذه الأسرة، التى تتحرك داخل منزلها، وينتقل أفرادها من حجرة إلى حجرة بسلاسة وعلى نحو طبيعى، وكأنهم أسرة عادية، وكأن الشقة شقة طبيعية، ولا وجود لمسرح أو متفرجين، بل هم ضيوف فى الصالون، أو جيران تصادف وجودهم، أو بعض أفراد الأسرة الذين لم تأتِ على ذكرهم الأحداث.
نصل إلى لحظة الذروة، وهى موت «بثينة» أثناء مشادة تجعلها تشعر بالحسرة من أن لا أحد يفهمها ويقدر ما تفعله من أجلهم، أو يستوعب محاولتها للحفاظ عليهم وتحقيق آمالهم، ربما بخوف مفرط عليهم أحيانًا، أو بامتلاك وأنانية أحيانًا أخرى، لكنها تظل هى الأم التى تسعى إلى لم الشمل، حتى ضد رغبة وطموحات الأبناء الذين يتطلعون إلى الانفصال.
تورط المتفرجون فى اللحظة، حتى إنه لو تسنى لبعضهم أن يتصل بالإسعاف لإنقاذ «بثينة»، وحتى إنهم جميعًا سعدوا بعد ذلك، حين أدرك أفراد الأسرة رسالة الأم، وتغيروا بسبب الواقعة على نحو إيجابى، وسعدوا بأن طيفها «روحها» كان حاضرًا وشاهدًا على هذا التغيير، وكأن ما لم تستطع تحقيقه فى حياتها حققته عبر موتها.
يعتمد العرض على الاندماج الكلى للممثلين فى شخصياتهم، وكذلك للمتفرج، فنحن جميعًا متورطون فى الحدث ولو بالصمت والفرجة. والتمثيل داخل تلك البقعة الضيقة والمرور ما بين المتفرجين، هو أمر صعب للغاية، يستحق توجيه التحية للممثلين، الذين أدوا أدوارهم باحترافية كبيرة، رغم أن معظمهم حديثو العلاقة بالتمثيل، وكذلك للمخرج الذى دربهم على هذا الأداء.
بالنسبة لى كانت سعادتى بفريق العرض كبيرة، فكيف يواجه الشباب تحدياتهم ويستحدثون حلولًا ومخارج ويتمسكون بشغفهم، فتحية لمجموعة عرض «شقة بثينة»، وتحية لكل شباب المسرح القابضين على الجمر.