المكتبة فى حياتى
فى يوم الكتاب العالمى أتذكر الكتب التى غيرت حياتى، والمكتبات الصغيرة والكبيرة التى كونتها وتفرقت وضاعت، مثل وجه عزيز تهدمت ملامحه. وما زلت أذكر إلى الآن صالة شقتنا فى العباسية عام ١٩٥٣ وأنا واقف بين قدمى والدى، وبجواره أحد الضباط يقلب فى المكتبة ويسحب منها الكتب ويتفحص عناوينها، وحين ألقى بأحد الكتب إلى مخبر وراءه، تقدمت خطوة وصرخت فيه: هذا كتاب أبى. لماذا تأخذه؟ ابتسم لى الضابط بسخرية وجرنى والدى إلى خلف ظهره. فى حينه سكنت شعورى فكرة أن الكتاب شىء خطر، ومقلق، ومهم حتى إنه أدى إلى اعتقال أبى لاحقًا. إنه الكتاب الذى يحتفل به العالم أجمع فى ٢٣ أبريل كل سنة بعد قرار اليونسكو فى ١٩٩٥ الاحتفاء بالكتب ومؤلفيها وحقوقهم التى لم يكن لها وجود قط منذ ظهور أول مؤلف فى التاريخ. المكتبة الثانية التى ظهرت فى حياتى كانت مكتبة جدى لأمى حين انتقلنا للعيش معه، ولم تزد على رفين اثنين، كان عليهما عشرة كتب فقط، كلها من تأليف عباس العقاد. كنت أنظر إلى الكتب فتفزعنى وأنا فى الثامنة من عمرى عناوينها الصارمة الجهمة، فلا أمد يدى إلى أى منها. ومع ذلك فإن وجود المكتبة بحد ذاتها غرس فى نفسى مبكرًا انتباهًا إلى أهمية الكتاب، وإلا فلماذا يعتنى به جدى ويضعه على رف مخصوص أعلى السرير؟
عشنا سنوات فى بيت جدى ثم انتقلنا إلى مسكن مستقل فى شارع مصر والسودان، وهناك مع ظهور والدى فى حياتنا وجدت مكتبة أخرى عبارة عن صوان من ضلفتين ممتلئ بكتب لا أعرف أسماء كتابها، ومع ذلك رحت أشد كتابًا بعد الآخر، وكان معظمها روايات روسية مترجمة، أذكر منها رواية دوستويفسكى "نيتوتشكا"، ووقوعى بالكامل فى أسر شخصية الموسيقار التعس وابنته. لكن المكتبة كانت صغيرة، فرحت أبحث عن مكتبة أخرى، وكان بجوار عمارتنا فيلا مهجورة وضع عم حجازى على سورها مختلف الكتب، فاتفقت معه أن أعطيه قرشًا يوميًا على أن أجلس بجواره على الرصيف وأقرأ ما أشاء دون أن آخذ كتابًا معى. وخلال عدة شهور قرأت مكتبة الرصيف تلك كاملة، روايات أرسين لوبين، وأجاثا كريستى، والسباعى، ولكن رواية واحدة تأليف ويلكى كولينز، هى "ذات الرداء الأبيض"، نبهتنى مثل ضربة على الرأس إلى أن هناك أدبًا حقيقيًا ليس مجرد رص كلمات، وقد توقفت عندها بالشعور والفكر طويلًا. انتقلنا بعد ذلك إلى شارع نوبار، وبدأ وعيى يتشكل، فصرت أكون مكتبتى باختيارى، وكان فى مقدمة كتبها أعمال سلامة موسى، وأدباء كبار عرب وأجانب، وعندما انتقلنا إلى شارع عدلى، كانت هناك حجرات منفردة ملحقة بكل شقة على السطح، فجعلت الحجرة الخاصة بنا مكتبة كاملة اشتريت كل كتاب منها من مصروفى وحر مالى. وكانت الكتب فى كل ذلك تفسح المجال لخيالى، ولعوالم وتجارب أخرى تشعرنى أنا ومئات الأشخاص بآلاف المشاعر والخواطر. وعندما اعتقلت عام ١٩٦٨ اضطرت الأسرة لترك شقة شارع عدلى، تحت تهديد قانونى بالاستيلاء على كل ما فى الشقة، فقامت فى الليل بنقل كل شىء إلى شارع نوبار، وفى أثناء اللخمة والربكة والسرعة نسوا أن هناك على السطح حجرة كاملة جدرانها كلها رفوف كتبى، وعندما تذكرت أمى المكتبة كان الوقت قد فات. وهكذا شهدت حياتى ست مكتبات متوالية تفرقت وتبددت مثلما تتهدم واجهات المعابد أمام عينيك، ولم يبق سوى مكتبة السنوات الأخيرة التى خلافًا لكل المكتبات السابقة تضم عددًا ضخمًا من الكتب باللغة الروسية. والآن فى يوم الكتاب العالمى، وأنا أفكر فى كل ذلك أجدنى منجرفًا للإعراب عن شكرى لكل أولئك الكتاب، الذين أثق أن أحدًا منهم لم يحصل على حقوقه مؤلفًا، وأخص بالشكر عم حجازى صاحب مكتبة الرصيف على سور الفيلا المهجورة.