أمانه عليك أمانة... يا رايح بورسعيد
لثلاثة أيام متتالية لم يفارقنى صوت شادية وهى تغنى لبورسعيد وتترجى الذاهبين إليها أن يبوسوا أيادى ناسها.. خطر الأمر على بالى وكأنها حرب جديدة يخوضها أهالى المدينة الباسلة.. ولم لا؟.. هل يختلف المتاجرون فى أقوات الناس عن المحتل الأجنبى.. كلاهما يأكل حق الناس بالباطل.. كلاهما ضد البلد وناسه..
بورسعيد الجميلة فجأة انتفضت وأعلنت عن مقاطعة شراء الأسماك.. مبادرة أطلقها شاب على مواقع التواصل، سرعان ما عرفت طريقها للمواطنين، الذين استقبلوها بحرفية غير معهودة.. أهل بورسعيد الذين يرتبطون بعالم الصيد ويعرفون كل خباياه استغربوا هذه الأسعار الجنونية لوجبتهم الشعبية الأولى.. وكأن لهم منطقهم البديع الذى يقول إنه لا علاقة للدولار بخيرات الله القادمة من البحر.. وإذا كانت هناك زيادة فى سعر السولار أو أجور العمال أو الكهرباء، فهى لا تتناسب مع تلك الزيادات الخرافية، خصوصًا مع الأنواع الشعبية من الأسماك.. الشبار والشخرم والسردين على سبيل المثال..
الشاب سعيد.. كان أحد المشاركين فى الحوار الوطنى منذ شهور ممثلًا لشباب بورسعيد.. تحدث بعفوية ووعى عن جنون الأسعار.. كان يتحدث فى غرفات وقاعات مغلقة.. يومها تحدث البعض عن الرقابة.. الشاب نفسه هذه المرة ألقى صرخته فى حجر الناس.. والناس تلقفوا الأمر بسرعة.. الحكومة ليست وحدها.. الأجهزة الرقابية يسبقها ويمشى معها الطريق ذاته.. الناس.. أصحاب المصلحة..
وقد كان.. فى اليوم الأول.. لم يذهب أحد إلى حلقة السمك.. اختفى المشترون.. واضطر التجار أن يعلنوا عن تعاطفهم.. وطبعًا تخوفهم.. فقام البعض بتخفيض الأسعار.. اليوم التالى انتقلت العدوى من محل سمك إلى آخر من سوق إلى سوق.. ونقلت السوشيال ميديا الأمر لعموم مصر.. فتجاوبت الإسكندرية ودخلت فى حملة المقاطعة.. وبعدها دمياط.. ومطروح والسويس والإسماعيلية..
الفكرة ليست فى المقاطعة.. أو فى الدعوة إليها.. الفكرة أن الناس توصلوا إلى أنهم يستطيعون أن يجابهوا جشع التجار.. هذه واحدة.. الثانية اكتشاف الناس أن الزيادات الرهيبة فى بعض السلع بفعل فاعل ولا علاقة للدولار صعودًا وهبوطًا بالأمر.. ثالثًا.. شجعت الحملات التى شنتها الحكومة ضد أصحاب المخابز فى إحساس الناس بأن حكومتهم معهم.. وأن الأحوال فى الأسواق لن تستقر دون تكاتف الجميع.. الشعب وأجهزة الرقابة والحكومة معًا.. الأسواق بها حالة من الفوضى وكل واحد بيبيع بمزاجه.. هذا المزاج لم يعد هو المسيطر على العملية.. بل إرادة الناس.. نحن نستطيع أن نفعل الكثير ليس فى قضية أسعار السمك وحدها.. اللحوم والدواجن دخلت على الخط..
فى اليوم التالى لبداية حملة خليها تعفن.. انتبه الجزارون.. بعضهم وجدها فرصة للصيد فى ماء السمك العكر.. وبمنطق أن من سيقاطع السمك سيذهب إلى الجزار قرروا رفع أسعار اللحوم.. لكنهم بوغتوا بمن يخبرهم بأن الدور عليهم «فلموا نفسهم».. فى انتظار الخطوة التالية..
لن ينتهى الأمر هذا الأسبوع حتمًا.. يحتاج لبعض الوقت.. عدم دخول القاهرة الكبرى فى الحملة أمر غريب.. ومريب.. وغير قابل للفهم.. عشرون مليون مواطن بلد بحالها.. استغرب شغفها بمقاطعة بضايع الصهاينة ومن يدعمهم من أجل غزة.. فى نفس الوقت لا يدعمون حملة مقاطعة الأسماك من أجل أنفسهم.. ربما يفعلون ذلك فى وقت لاحق بعد التأكد من تحقيق نتائج إيجابية وإن كان قد حدث ذلك بالفعل فى ثمانى محافظات.. الصعيد أيضًا بعيد عن الأمر.. ربما لأنه لا يتعامل مع الأسماك باعتبارها وجبة رئيسية، مثل اللحوم، لكنه قد يفعلها ويقاطع اللحوم والدواجن.. على كل حال هناك حالة من الفرح بما فعله شباب بورسعيد.. ومن استجاب لهم.. وأعتقد أن الأيام المقبلة حبلى بالجديد فى هذا السياق.