"التحديق" فى الداخل
«الإثم»، الذى أزهو بارتكابه… أننى لا أجرؤ على لمس القلم، أو الاقتراب من جسد الصفحة البيضاء، إلا اذا أحسست، أن كل كلمة، هى امتداد لـ«مزاجى»، وحالتى النفسية، والعاطفية، والجسمية.
لا أؤمن بكلمة، ليست تنتمى إلى أوجاع، وأحزان، وأفراح، و أحلام «ذاتي». لا أكتب حرفًا، لا يحمل فصيلة دمى، ولا يشكل لونًا، أو خطًا، أو ظلًا، فى لوحة وجهي.
لا أكتب، لأثبت التزامى نحو «القضايا الجماهيرية».. لا أكتب للشهرة، أو تلقى المديح، ولا أكتب من أجل الفلوس، فالكتابة فى بلادى لا توفر ثمن الثلاث وجبات اليومية، الضرورية للبقاء على ذمة الحياة. لا أكتب لكى تأتينى الدعوات، لقراءة قصائدى، أو التحدث فى الندوات، والمهرجانات، أو لترشيح نفسى فى اتحاد الكتاب، أو لأكون فى جمعية تلصق اسمى، فى قائمة الكاتبات والشاعرات، أو لأكون عضوة فى مجلس أمناء، أو مجلس شعب، أو مجلس آباء وأمهات، أو مجلس نواب. لا أكتب لأحصل على ترشيحات الشِلل الأدبية، والنقدية، للجوائز، المحلية، أو العالمية. ولا أكتب، لتتصدر مقولات حكمتى وعصارة تجاربى، صفحات الجرائد والمجلات، مع صورتى بشَعر مصبوغ، وماكياج صارخ، وخداع حقن البوتوكس.
لا أكتب، لأدخل التاريخ. فأنا، لا يهمنى التاريخ، ولا الجغرافيا، ولا الأحياء، ولا الأموات.
ولا أكتب لإصلاح الكون، وحال الدنيا المايل.. أو لأحرر النساء والرجال والأطفال.
لا أكتب لكشف الفساد، أو فضح الاستثمار فى الأديان، وأجساد البشر. لا أكتب، لتعرية إرهاب الدولة الدينية … وإرهاب الفن المتدنى … وإرهاب الأخلاق غير الأخلاقية.
ولا أكتب لأوصف بالجرأة إضاءة دروب الوعى، ونقل المجتمع، إلى التنوير، والتحريض على اشتهاء الحرية والعدل. ولا أكتب لأصبح ضيفة مستهلكة، فى تلفزيونات الأرض، أوفضائيات السماء.
لا أكتب، لأقتل الوقت المسجون فى انتظار لقاح فيروس، أو وباء، أو لكى يطغى غناء الكلمات، على شراسة وتنمر الميكرفونات.
لست أكتب، لأعوض تجاهل الاعلام للكاتبات، والشاعرات، بينما يلهث كل يوم، ليل نهار، وراء الممثلات والراقصات والمذيعات.
ولست أكتب، لأنسى أن عقلى، وعواطفى، وأحلامى فى تناقض جوهرى، مع قوانين الكون، وقوانين الحياة، وقوانين العالم، وقوانين التطور، وقوانين الجسد، وقوانين الزمن، وقوانين الأحوال الشخصية.
ولا أفكر فى الكتابة لتكون شاهدة على قبرى، «هنا ترقد كاتبة وشاعرة ولدت فى القرن العشرين ورحلت فى القرن الحادى والعشرين».
بكل بساطة، أكتب عشان «أنبسط».
أكتب، عشان «أستلذ»، و«استمتع»، و«أزهو» بنفسى، و«أتمزج» على الآخر، و«أنتشى حتى الثمالة»، من مداعبات اللغة، ورحيق الكلمات، وعناق الأفكار.
إننى عاجزة حتى الشلل، عن افتعال لذة الكتابة، واستحضار نشوة هذا العناق، وتمثيل دور المستمتعة، المتمزجة، بفعل الكتابة.
مثلما هناك نساء، يفتعلن الشعور باللذة الجنسية، وتمثيل دور المرأة الملتزمة، بالأنوثة الموروثة، والوفاء الشرعى. توجد أيضًا النساء الكاتبات، اللائى يفتعلن لذة الكتابة، ويمثلن دور الكتابة الملتزمة، بالمواعظ الذكورية للنقاد، وبإرضاء المهيمنين على «تلميع»، أو «إطفاء»، منْ تمسك بالقلم.
ممارسة الكتابة، مثل ممارسة الحب. تفترض مسبقًا، العاطفة الجياشة.. والحرية.. والدهشة.. والحنين، والغموض، والتركيز، والهدوء، والخيال، والانفتاح على طاقات وأسرار، والوصول عبر الجمال، إلى محطة جديدة ساحرة، من اكتشافنا لذواتنا، وللآخر، وللكون.
«القلم»، رجل لا أقربه، ولا ألمسه، إلا حينما أشتهيه إلى حد النزف.
لكن حديث الذات، فى مجتمعاتنا، حديث منبوذ، مكروه، يوصف بالسطحية، والمحدودية، وخيانة الأمانة، والتربع فى برج عاجى، منعزل، عن «هموم الأغلبية الساحقة».
إن الذات، «تاريخ»، و«حضارة»، و«مخزون» ثقافى متراكم، و«توليفة» أفكار، و«كوكتيل» من الواقع والحلم، وجميع تنويعات المشاعر، والعواطف، وخلطة من الأمزجة.
من هنا، تصبح «الذاتية»، جسرًا للعبور، إلى الآخرين، لأنها بالتحديد، لم «تنكر» نفسها، ولم تقلد أحدًا.
يقول كتاب «الأوبانيشاد» الهندى، أقدم كتب الحكمة: «لا تنكر ذاتك فهى الأجنحة التى بها تطير». ويقول أيضًا: «ابحث فى الداخل.. فالكون كله موجود فى قلبك».
هذا هو بيت الداء. الناس، ينظرون إلى الخارج.. لا أحد «يحدق» فى الداخل، وينصت إليه، ويسترشد بحكمته. ولذلك، تكرر البشرية حماقاتها، ويعيد البشر خطاياهم.
«لا تنكر ذاتك فهى الأجنحة التى بها تطير».
أعتقد أن هذا هو التفسير، لماذا على الأخص، فى مجتمعاتنا، فقدنا القدرة، أو «الرغبة» فى الطيران، والتحليق. واستسلمنا لإدمان الخطوات الكسيحة، والمشى الخامل، والوقوف اليائس.
«لا تنكر ذاتك فهى الأجنحة التى بها تطير». هذه الحكمة الهندية، المنسية، تذكرنى، كيف يغسل الناس «كل يوم»، وجوههم، ولا يغسلون «مرة واحدة»، قلوبهم.
بكل بساطة، أكتب، لأفرح، فى عالم يسرق الفرح الحقيقى، ويعتم على الموهبة الحقيقية، ويضعف الذات المتشبثة بذاتها.
----------------------
من بستان قصائدى
============
تبدأ حضارة الماء
بتحرير النساء
تبدأ حضارة الدماء
بذبح النساء