لو كنت حبيبته
هذا العام نحتفل بالذكرى الثامنة بعد المائة، لميلاده.
أنا وأمى "نوال"، كانت لنا أذواقنا المختلفة.
ويأتى رجل يعيش على بعد آلاف الأميال، ليوحد بين أذواقنا، دون أن يقصد، ويجعلنا نحن الاثنتين نسهرالليل، مع رجولته الفاتنة النادرة، وأدائه الفنى السهل الممتنع.
مع مشروب مثلج، نعيد المشاهد كلها، نناقش فكرة الفيلم، نستعيد أداءه مشهدًا، مشهدًا، من البداية والنهاية. نندهش من تفوقه على نفسه، وتحديه قدراته وموهبته، مع كل فيلم جديد.
تقول أمى: "من أين يأتى بهذه الكاريزما الهادئة الرقيقة، التى تخفى تحتها التمرد والتوحش، وتكتسح كل ما بطريقها؟".
أقول لأمى: "هكذا هو الحال مع الأشياء الجميلة، توقعنا فى شباكها بنعومة وسلاسة، ثم تفعل بنا كما تشاء".
تسألنى أمى: "فيم تشردين؟". أقول: "كيف لم أكتب عنه حتى الآن؟.. أبرأ من نسب عواطفى، إذا لم تدخل رحم الأبجدية".
قالت أمى: "الكتابة مثل ثمار الأشجار، تختلف فى توقيت نضجها. لن تنضج ثمرة الجوافة قبل موعدها، لمجرد أننا نشتهيها ونحب طعمها...".
هكذا تكلمت أمى. وهكذا جاء أوان قطف الثمرة، لكنها رحلت، ولم تتذوقها معى.
أكتب عنه، رغم اقتناعى أن أجمل الكلمات لا تجمله. فهو لا يحتاج أي نوع من الجمال، فهو كما هو، بدون إضافات "مكتمل" الجمال.
فى الخامس من أبريل 1916، تشرفت أمريكا، بولادته على أرضها، فى ولاية كاليفورنيا، واستعد الفن السابع ليستقبل نجم النجوم، وأستاذ الأساتذة، وفارس الفرسان.
أى أننا هذا العام نحتفل بالذكرى الثامنة بعد المائة، لميلاده.
بالأمس سهرت أحتفى به، وأنا أشاهد مرة أخرى واحدًا من كنوزه الإبداعية، فيلم "أرابيسك" 1966، مع صوفيا لورين 20 سبتمبر 1934- وإخراج ستانلى دونين 13 أبريل 1924- 21 فبراير 2019.
من أول مشهد، حتى آخر مشهد، يخطف العقل والقلب والعين والأذن.
له "طلة" مُحيرة، و"حضور" ممتلئ بالثقة والكبرياء، و"جاذبية"
فريدة الجينات، مكوناتها لا تتأثر بتغير البشر والزمن.
منذ أول أفلامه، حتى آخرها، لم يكرر نفسه، واكتفى بأن يترك 60 فيلمًا فقط. لكن كل واحد علامة بارزة، تصعد به درجة على سُلم الخلود.
أفلامه تعكس وعيًا، واستنارة، وثقافة، وسخرية راقية، وفلسفة نبيلة لإثراء الحياة، ومعنى وجود الإنسان، ومسئولية الفن، ورسالة الفنان تجاه مجتمعه، والبشرية كلها.
دائمًا يتحدث عن جدته، أقام لديها بعد انفصال أبيه وأمه، وكيف أنها السبب الحقيقى وراء انبهاره بالسينما. فقد كانت تصطحبه، وهو صغير إلى عروض الأفلام، بشكل منتظم. تقول له دون كلام: "ستصبح يومًا نجمًا مثل هؤلاء الذين تنبهر بهم... لِم لا؟... أنت لا تنقص عنهم شيئًا".
وعندما تحققت نبوءة جدته، لم تكن هناك. وكان الألم يعتصره، يكاد ينسيه شعبيته، ونجاحه، ونجوميته.
ألم آخر ضربه فى الصميم، عندما انتحر واحد من أبنائه، فى 26 يونيو 1975، من زوجته الأولى "جريتا كوكونين"، وكان عمره واحد وثلاثين عامًا، وهو الآخر دخل عالم التمثيل السينمائى.
واستطاع الفنان بداخله، أن ينتصر على حزن الأبوة، وقدم بعد عام واحد، واحدًا من أميز أعماله 1976، وهو فيلم "النذير" مع لى ريميك، وإخراج ستانلى دونن.
منذ بداياته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، كان يحير النقاد، ماذا يكتبون عنه؟؟.
أدركوا أن كل مدارس النقد التى قرأوا عنها، وجميع نظريات التمثيل، المعروفة والمعتمدة، التى درسوها، لا تنطبق عليه، من قريب أو من بعيد. ولذلك، اكتفى البعض منهم بالدهشة الحائرة، والبعض التزم الصمت، والبعض من النقاد لا يملك شيئًا، الا أن يصافحه بانبهار، ويذهب لينام فى بيته، على أمل أن يصحو وقد أدرك السر.
أما البعض الجرىء منهم، لم يشأ أن يرى نفسه عاجزًا، فترك مهنة النقد.
هو مدرسة خاصة متفردة لا تحمل إلا اسمه، المنحوت بدأب وجهد وشغف
على الشاشة، المنقوش فى قلوب منْ أسعدهم الحظ، ليشاهدوا كيف تتحول الدراما، إلى معجزة ساحرة من معجزات الدنيا، مثل الأهرامات فى مصر، وتاج محل فى الهند، يحدقون فيها، بالساعات، ولا يفهمون أسرارها.
يدعم الحزب الديمقراطى الأمريكى، وكانت له مواقف نبيلة إنسانية لا تُنسى، مثل رفض التفرقة العنصرية، والاعتراض على حرب فيتنام، وتأييد حظر الأسلحة النووية فى أمريكا والعالم، وناهض سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، للسيطرة على العالم، والبقاء القوة العظمى الوحيدة. وفى أى حملة إنسانية لمساعدة الشعوب والبشر والأطفال الأقل حظًا، الأكثر احتياجًا، يبادر بالتبرع بأجور أفلامه.
تم ترشيحه عدة مرات لمناصب سياسية مرموقة، رفضها قائلًا: "لست وراء سلطة سياسية، رسالتى فى الفن.. هي الطريقة الوحيدة التى تمكننى من أن أحكى القصص للناس، وأتواصل معهم رغم أننى لا أراهم".
كل ممثلة شاركته مشاهد الحب، كانت تتمنى لو أصبحت قبلاته ولمساته، هى حقيقة، وليست مناظر فى السيناريو.
أعتقد أن كل مخرج عمل معه، يقول: "أشرد مع أدائه وأنسى المشهد التالى، وأتحول من مخرج إلى مشاهد مفتون، جريجورى لا يحتاج الى توجيه، هو مايسترو العمل، الناس يذهبون لمشاهدة فيلم لجريجورى بك، وليس فيلمًا من إخراج عظماء مثل هنرى كينج، أو ألفريد هيتشكوك، أو روبرت موليجان، أو ديفيد سيلزنيك، أو ستانلى دونين، أو جون هيوستون، أو وليام ويار، فريد زيمان، أو ستانلى كرامر، أو جى لى طومسون أو مارتن سكورسيزى، أو فينسنت مينيللى. وكل جوائز التكريم التى حصدها عن إبداعاته، هى التى تفوز بحملها اسمه، وليس هو، "الغنى عن كل تكريم".
دائمًا ما يُسأل الممثل عن المخرج الذى استطاع أن يظهر كل إمكاناته، ويقدر على العزف على جميع أوتار موهبته وتميزه. ومعه كان يجب أن ينقلب السؤال، ليصبح موجهًا إلى كل المخرجين الذين تعاملوا معه: "كيف استطاع أن يكتشف خفاياك كمخرج، ويحرر طاقاتك الفنية السجينة؟".
ولأنه عاشق للأدب، ودرسه فى الجامعة، كان يفضل الأفلام المأخوذة عن الروايات، أكثر من الأفلام المكتوبة خصيصًا للسينما.
نذكر على سبيل المثال، فيلم "أن تقتل طائر محاكى" أو "أن تقتل طائر مغرد"، تأليف الكاتبة الأمريكية "هاربر لى، ويتعرض لقضية التفرقة العنصرية فى ثلاثينيات القرن الماضى. قرأها الفنان المثقف المحب للعدالة والحقيقة، وأعجب بها، وسعى إلى تحويلها إلى فيلم سينمائى. وتحقق الأمر 1962، وأدى دور المحامى أتيكوس فينش، أخرجه روبرت موليجان، ليحصد به الأوسكار.
رواية أخرى من تأليف اراليفين، بعنوان "الأولاد من البرازيل"، وظهرت على الشاشة 1978، ويشاركه اثنان من نبلاء الفن السابع، لورانس أوليفييه، وجيمس ماسون، إخراج فرانكلين شافنر. وقام بدور الطبيب يوسف مينجيل، الذى يقوم باستنساخ أدولف هتلر، 95 مرة، ويسعى إلى تربيتهم فى البرازيل، بالطريقة نفسها التى تربى بها هتلر، حيث أراد تأسيس الرايخ الرابع، ليكمل المسيرة النازية.
أما قصة أرنست هيمنجواى "ثلوج كليمينجارو"، قام بالبطولة 1952، مع أفاجاردنر وسوزان هيوارد، وأخرجه هنرى كينج مع روى بيكر.
أما فيلم "الآثم العظيم" 1949، مع أفا جاردنر، ومن إخراج روبرت سيودماك، فكان أيضًا عن رواية لفيودور دوستويفسكى، كتبها 1866، واسمها "المقامر".
من كنوزه التى أضاءت الشاشة، "مفاتيح المملكة"، "مدافع نافارون"،"موبى ديك"، "قضية بارادين"،"أيام المجد"، “المقاتل”.
"ميراج"، "معبودى الخائن"، "اتفاق السادة"، "مرفأ الخوف"، "بورتريه"، "عطلة رومانية"، "على الشاطئ"، "الرضيع"، "الدولة الكبيرة"، "كيف غلب الغرب"، "دافيد وباشيبا"، "الشجاع فقط"، "المرأة المصممة"، "كابتن نيومان"، "ماكارثر"، "أرابيسك"، وفيلم "ذهب ماكينا" الذى قاسمه البطولة عمر الشريف عام 1969.
أما فيلم "المسحورة"، 1945، مع انجريد برجمان، من اخراج ألفريد هيتشكوك، فهو يحولنى الى "مسحورة" مثل البطلة.
فى واقع الأمر. أنا حقا مسحورة، الى درجة أن كل رجل أحببت، كان لابد أن يشبهه، على الأقل فى شىء واحد.
فيلمه "معبودى الخائن"، 1959، مع ديبورا كير 30 سبتمبر 1921- 16 أكتوبر 2007، من اخراج هنرى كينج، 24 يناير 1886 - 29 يونيو 1982، مأخوذ عن الأيام الأخيرة لحياة الكاتب الأمريكى، سكوت فيتزجيزالد 24 سبتمبر 1896- 21 ديسمبر 1940.
تقمص كعادته، بكل براعة ومهارة وبساطة مركبة الانفعالات، شخصية الكاتب المتوتر، القلق، المحبط من عدم التقدير اللائق به، وتراجع الناشرين، وتعثر علاقاته العاطفية، ويكاد يفقد صوابه لأنه أكبر بكثير مما حقق.
اشترك فى بعض الاستعراضات ذات الطابع الفكاهى، بالرقص والغناء. وهذا شىء لا يعرفه الكثيرون عنه.
وقدم فيديوهات لأغنيات شهيرة لفرانك سيناترا، مع مقاطع من أفلامه، مثل أغنية "العالم الذى نعرفه".
وهو متحدث لبق، وذو روح دعابة، واضحة فى حواراته الإعلامية.
نال الكثير والعديد من الجوائز، منها على سبيل المثال "وسام الحرية الرئاسى" قدمه له الرئيس ليندون جونسون 1969، ونال الجولدن جلوب أكثر من مرة، ودخل قائمة معهد الفيلم الأمريكى أعظم النجوم الرجال 1999، وواحد من الـ50 أسطورة على شاشة السينما، ونال جوائز لمجهوداته الإنسانية فى علاج السرطان والإيدز. كما تزينت به قائمة الرجال شديدى الأناقة عالميا 1983.
هو أكثر ممثل يصلح للسينما الناطقة. هو لا يحتاج إلى حوارات، وحبكات درامية، وغيرها. يكفى أن تلتقطه الكاميرا، وسوف تتكفل نظراته وملامحه ولغة جسده، بما يلزم ليكون العرض كامل العدد.
هو واحد من الناس عندما تراه لأول مرة، تشعر لحظتها أنك أمام إنسان "حقيقى" له قضية يؤمن بها، منحها كل شغفه وإخلاصه.
كل فيلم تركه لنا، أودع قطعة من قلبه، منذ البطولة الأولى عام 1946 فى فيلم "مفاتيح المملكة"، وحتى آخر أفلامه "مال الناس الآخرين" عام 1991.
السينما هى الفن السابع، بعد العمارة والموسيقى والرسم والنحت والشِعر والرقص. وهذا الرجل يستحق أن يأخذ لقب "الفن الثامن".
لو كان فى حياتى، رجل مثله، سأنسى الوجه القاسى القبيح للحياة، وستتضاعف كتاباتى، وأصبح أكثر رشاقة وجمالا، ولن أعبأ بالموت.
لو كنت حبيبته، لا محالة، سأترك فئة البشر، وأصبح من الآلهة.
إنه "جريجورى بك"، ولا يمكن أن يكون إلا هو.
خِتامه شِعر
بعد طول ترددى
وحيرتى وارتباكى
لبست الملابس الواقية
من جميع أشكال الخطر
وقررت أخيرًا أن أحبك
لن أرجع فى القرار
قررت الاقامة على جلدك
والسفر الوعر الى شفتيك
كن فيضانا يروى ظمأى
نارًا تحرق صدأ أنوثتى
اقتلنى.. وسأدعى أنه انتحار