أكتب بلا أمل
"قامت الحضارات على أكتاف النساء"، هكذا كتب "جبران خليل جبران"، 6 يناير 1883– 10 أبريل 1931.
إن ثراء المجتمعات يأتى من شقاء النساء فى البيوت، وتخليهن عن طموحهن الخاص، وتفرغهن لخدمة الأزواج ورعاية الأطفال، بالإضافة إلى أنهن بعد العمل 24 ساعة يوميًا، قلما يجدن مع الأزواج الارتواء العاطفى، والإشباع الجسدى. كيف لامرأة تُمتص طاقتها فى الطبيخ والغسيل، والمسح، والكنس، ولم القمامة، وخدمة الأطفال، طوال اليوم، أن تفكر فى اللذة العاطفية والجنسية، المسكينة المستضعفة ترمى نفسها على السرير فى الليل، لتنعم بالراحة، لتكرر اليوم التالى شقاء الأمس، ولكن هل يسمح الرجل بهذا الوضع، الذى يستهزئ برجولته المهملة، وشهوته المشتعلة، لا تحتمل التأجيل، ولا ترضى بالإلغاء؟ لقد تزوج للحصول على الطعام والنكاح، متى شاء، وكيفما أراد. لقد ملأ معدته، ولكن ماذا عن النكاح؟
يقول د. شريف حتاتة فى كتابه "العولمة والإسلام السياسى" 1991:
"إن عمل النساء فى البيوت، بدون أجر، هو جزء أساسى من تطور النظام الاقتصادى الرأسمالى يسمح باستمراره، وتراكم رأس المال. البيوت. عندما أضربت النساء فى أيسلندا عن خدمة البيوت، 1975، أصيبت الحياة بالشلل الكامل، فالرجل لا يستطيع أن يذهب إلى عمله دون أن يكون قد تناول إفطاره، وارتدى ملابسه المغسولة، النظيفة، ونام ليلته على سريره، واطمأن على أولاده وعلى رعايتهم. والأعمال التي تقوم بها المرأة في بيتها هي التي تصون قوة عمل الرجل. الوجبات التي يتناولها والتي تعدها له الأم، أو الزوجة، تدخل فى خلايا مخه، في عضلاته وشرايينه، وأعصابه التي يعمل بها".
إن الرجال يشقون وينهكون خلال ساعات النهار، وفى الليل يذهبون إلى المرأة فى البيت، حيث يمددون أجسادهم، ينعمون بالطعام والشراب والراحة، والإشباع الجسدى.
والاقتصاد الرأسمالى يفضل حصر عمل النساء فى الوظائف، التى يعزف عنها الرجال، والتى تحتاج إلى الصفات التى أسسها ورسخها الفكر الذكورى، وهى الطاعة، والجمال الشكلى، والصبر، وقوة التحمل النفسى لا العضلى، وخدمة الآخرين.
مثلًا تعمل المرأة أكثر فى الحضانات والمدارس، والسكرتارية والفنادق، وعرض الأزياء، وبيع البضائع، وتعمل كجليسة أطفال، وكممرضة، ومضيفة طيران.
نتمدن ونتحضر، ولكن أدوار المرأة ما زالت تحتاج الى عقلية مختلفة، وإنسانية أكثر.
حينما تكون النساء بخير، يكون المجتمع بخير.
*******
منذ سقطت فى مأزق الوجود، أو حُفرة الحياة، وأنا لا أتذكر أننى فعلت شيئًا إلا الكتابة. حقيبتى ليست مثل حقائب النساء، تحوى مرآة وقلم الروج، بل أوراقى وقلم الأبجدية.
أن تُنشر لى قصة أو مقال أو قصيدة، وبجانبها اسمى وصورتى، كان حدثًا مفرحًا، فى زمن لا أفراح له، مدهشًا كبدايات العشق، وهطول المطر فى الصيف.
ولادة قصيدة، ولادة جديدة للكون، أو ميلاد ثورة جامحة ضد الثبات والجمود. لا أرى الحياة إلا حروفًا وكلمات، تتجمع لترسم وردة، أو صرخة، أو ملامح وطن. يمكن أن تمر ساعات وأنا حائرة بين كلمتين، أيهما أختار لأبدأ. يمكن أن أموت آلاف المرات، ولم أستقر كيف أبدأ الكتابة. يوم لا أكتب، هو يوم لا أحسبه من عمرى، ينتمى لامرأة أخرى، ليست أنا.
ألقى بنفسى فى خطر المغامرات، أسافر عبر الطرق الوعرة، لأفوز بإلهام قصة، أو وحى قصيدة. لا يهمنى أن أخسر علاقة حب، المهم أننى ربحت الشِعر. لا أبالى أن أنوثتى قد هُزمت، أفكر فقط فى انتصار القصيدة.
أن أكتب معناه أننى أستسلم لجنون العقل، ونزف القلب. لا أفكر منْ سيقرأنى، أو هل ستنال كتاباتى الإعجاب، والإطراء. الكتابة تقبلنى كما أنا.. تحبنى حبًا غير مشروط، لا تقيدنى بقواعد الشِعر، ونظريات النقد، وأصول فن الكتابة، وضعها كهنة الكلمات.
يعتل جسدى، أكتب. وهذا يعنى أن الكتابة هى جسدى الحقيقى. أشعر أننى منبوذة، مطرودة، تفتح لى الكتابة أحضانها، فكيف لا تكون وطنى، وبيتى؟ ولأن الكتابة جسدى ووطنى وبيتى، فأنا لا ألوثها، ولا أخونها، ولا أثير فيها الفوضى.
وكما تذهب المرأة لتلتقى بالحبيب، أذهب إلى ورقة الكتابة، فى كامل أناقتى، مرتدية أجمل أثوابى.. يخفق قلبى وتتسارع دقاته، يروق بالى، يصفو مزاجى، أرتشف القهوة والكلمات.
أعجبنى رجال كثيرون. لكننى لم أحب، ولم أعانق عناقًا حميميًا إلا رجلًا واحدًا هو "القلم".
كل كتاب نسجته أناملى، وتركنى ليُباع فى الأسواق، أشعر بأننى أبيع جزءًا حميمًا من وجودى، وأننى أعرض أهم وأجمل ما أكونه على الأرصفة.
تمر السنوات، وبعد عدة مؤلفات متنوعة، أحس كم كنت ساذجة. صدقت تلك الأكذوبة التى تمجد فعل الكتابة، وصدقت أن الشِعر نوع من السحر، وأن تعرية القبح وعدم العدالة بالقلم واجب وطنى، وأن الكاتبة والشاعرة التى لا تصدم شيئًا، لا تساوى شيئًا. كم كنت ساذجة، لأصدق أن مكانتى ترتفع كلما بقيت ضد التيار سابحة. ورغم أننى أكره تعبير "قطة مغمضة" إلا أننى كنت كذلك، لأصدق أن "الموهبة" وحدها تكفى، وأنها حتمًا ستؤتى ثمارها فى أحد أيام العمر.
أعطيت سنوات العُمر للكتابة، دون قيد أو شرط، ومن أجلها تركت الشهادات الجامعية، لتبقى حبرًا على ورق، محبوسة فى الأدراج، أو مشنوقة على الحائط.
أتأمل مؤلفاتى المرصوصة على الأرفف، وتبدو لى مثل جناة يصطفون فى طابور، ينتظرون دورهم فى الإعدام. لا أريد التحديق فيها، فهى دليل دامغ على جريمة "العبط"، ضد نفسى، مع سبق الإصرار والترصد.
ما أقسى أن أشعر بأننى كنت أحرث فى البحر، وأننى نثرت بذورى الطازجة فى تربة جافة، طاردة، مشققة، لا تصلح إلا للحشائش والحشرات.
أعطيت الكتابة، وجحدتنى. اشتهيتها وزهدتنى.
بين الحين والآخر، تنتابنى هذه الأفكار.. تتملكنى، تطاردنى، تعاقبنى بقلة النوم، وزيادة مضادات الاكتئاب.
لا أدرى كم من الوقت يمضى، لأجدنى مرة أخرى أشد الرحال إلى ورقة الكتابة، فى كامل أناقتى، مرتدية أجمل أثوابى، يخفق قلبى، تتسارع دقاته، يروق بالى، يصفو مزاجى، أرتشف القهوة والكلمات.
لا أدرى كم من الوقت مضى، ليتجدد يقينى أن الكتابة، نعمتى ولعنتى، جحيمى وجنتى. كما تحبنى حبًا غير مشروط، لا بد أن أحبها بالمثل، ولا أنتظر منها شيئًا.
أكتب الكتابة، وأرميها فى البحر.. هذه هى حكمة "القلم"، وهذا هو الأمر.
الكتابة- شئت أو أبيت- قدرى.. ومنْ أنا لأقاوم القدر؟ منْ أنا لأغير مجرى الأنهار، أصمد كالجبال، أعدل سُنة الحياة، وتعاقب الليل والنهار؟
*******
من بستان قصائدى
--------------------
بكائى ليس ملكى
ملك عيونى
ابتساماتى ليست ملكى
ملك شفاهى
حركاتى ليست ملكى
ملك جسدى
أحلامى ليست ملكى
ملك قلبى
كتاباتى ليست ملكى
ملك أصابعى
أنفاسى ليست ملكى
ملك صدرى
اختياراتى ليست ملكى
ملك عقلى
سعادتى ليست ملكى
ملك مزاجى
كيف أجرؤ
وأقول أننى "حرة"؟