ديوان الشعر المصرى.. مبادرة وطنية خالصة
أجدني في قمة السعادة حين أصادف في بلادنا من يبحث عن كنوز هذا الوطن ويسعى لاكتشافها وإعادة تقديمها. وتلك خصلة طيبة يتفرد بها أولئك الذين يعلنون تمسكهم بأصولهم ويميطون اللثام عن أي كنز من كنوزنا التراثية. فعلى مدى ألف عام مضت ترك الشعراء المصريون تراثا كبيرا من القصائد التي تعبر عن أحوال البلاد والعباد في بلادنا، وقد أتى اليوم من يسعى للكشف عن تلك الكنوز وأن يقدمها لنا حية ثرية.
الصديق الكبير- بل هو في منزلة الأستاذ بالنسبة لي- أحمد الشهاوي، شاعر متحقق وكاتب صحفي متفرد. تعرفت عليه كقارئ لمنجزه الشعري قبل سنوات بعيدة منذ حضرت له إحدى الندوات التي كان يشارك فيها بحضور كبير في معرض الكتاب في مقره السابق بأرض المعارض بمدينة نصر. ثم عدت واستضفته في بعض برامجي، إلى أن اقتربنا أكثر في ملتقيات أدبية وإنسانية كانت صاحبة الفضل فيها المثقفة المصرية الكبيرة د. لوتس عبدالكريم- شفاها الله وعافاها- وفي كل لقاء كان إعجابي بمنجزه الثقافي والصحفي يزداد.
يعجبني في تجربة الشهاوي كونه رجلًا محدد الهدف، واسع الاطلاع على ثقافات العالم وعلى احتكاك بها وتواصل مع رموزها في الشرق والغرب، والأهم من هذا كله أنه مترفع لا يسعى لمنصب ولا يطمح فيما ليس له. دعوته قبل سنوات لأن ينقل من ثقافته وإبداعه لجمهور الإذاعة، وأن يجعل من الراديو منصة جديدة له- ليس كضيف بل كصانع محتوى- تردد لنحو سنتين، ثم قَبِل المشاركة بشروطه. وشروطه مرتبطة بالمحتوى الذي يختاره وبرسالة البرنامج الذي يقدمه، فهي ليست مادية بالمرة، إذ أصبح من المتعارف عليه أن منصتنا لم تعد تبذل لمبدعي الوطن شيئا مما يستحقون، بل إن المبدعين صاروا يبادرون بالتطوع من منطلق وطني.
وبالفعل قدم الرجل في رمضان الماضي برنامجا عن كبار ورموز المتصوفة، واختار له اسما رومانسيا يتناسب مع شخصه، إذ أسماه "سلاطين الوجد"، ومضت الحلقات لتحقق نجاحا تدريجيا لم أكن أتوقعه. إذ إن إصرار الشهاوي على اختيار اللغة الفصحى، وغوصه في أعماق فلسفة كبار المتصوفة وأهل الوجد كابن عربي والحلاج وغيرهما، أمران لا يتوقع أحد أن يجدا قاعدة كبيرة من المستمعين، لكنه فعلها بصبر وبثقة في ذائقة المستمع المصري. الأمر الذي دفعنا لتكرار التجربة، فدعوناه لتقديم الجزء الثاني من البرنامج هذا العام، لكن جعبة الرجل لم تخلُ من الجديد هذا العام أيضا.
جاء الشهاوي وقد أضاف هذا العام إلى تجربته الإبداعية منجزا وطنيا تمثل في "ديوان الشعر المصري"، وعندما سألته عن تلك التجربة أهداني نسخة من كتاب "ابن النبيه" مشترطا كعادته أن أقرأه. فهذا هو شرطه الوحيد الذي يشترطه على كل من يهديه كتابا، إذ يرى أنك إن لم تنتفع بما جاء في الكتاب بقراءته فأولى بالنسخة شخص آخر مهتم بالقراءة ومعني بالمحتوى.
قدّم لي الرجل نسخة من الإصدار الثاني لسلسلة "ديوان الشعر المصري" عن الشاعر ابن النبيه. ولمن لا يعرف ابن النبيه أذكّرهم بأنه القائل: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا.. ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا. استوقفني في اسم السلسلة كلمة الشعر "المصري".. أليس الشعر عربيا؟ فلماذا نوطنه إذن ليكون هناك شعر مصري وآخر لبناني وثالث مغربي وهكذا؟ هل ترانا في حاجة إلى مزيد من التجزئة بعد كل هذا الذي نراه على ساحتنا السياسية العربية لننقل تشرذمنا إلى ساحة الشعر الذي كان ولا يزال يجمعنا لغة ومشاعر وقضايا؟
وحين فتحت مقدمة النسخة التي في يدي قرأت كلمات الدكتور أحمد بهي الدين، رئيس هيئة الكتاب ناشر السلسلة، إذ يقول في مقدمته: "لمّا كان الشعر للعربية ديوانها، كان لمصر لا يزال نصيب من الإبداع في بنائه، والارتقاء بأغراضه، واستمراريته طوال قرون.. فقدمت مصر للعربية شعراء كبارا، أسهموا بإبداعهم في هذا البناء الشامخ". وهنا أدركت فلسفة الفكرة وهدفها، إذ الهدف فيما فهمت هو الكشف عن كنوز شعرية تُركت في أمهات الكتب منذ عرفت مصر الشعر في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، حتى طواها النسيان. فليس من المنطقي حين أتحدث عن شاعر بقيمة "ابن النبيه" أن أضطر إلى تذكيرك بمنجزه بمجرد إلقاء بيت واحد من أغنية وحيدة غنتها كوكب الشرق من أشعاره، وحين نود تقديم تلك الأغنية في الإذاعة مثلا يقول المذيع: استمعنا من صوت أم كلثوم، ولحن أبوالعلا محمد، إلى قصيدة "أفديه" من الشعر القديم، على اعتبار أن الأغنية لشاعر مجهول.
تجاهل الناس مع مرور الزمن اسم الشاعر المصري العربي!! وهنا يبرز دور السلسلة وهدفها المتمثل في إعادة إحياء التراث الشعري المصري. فلابن النبيه وحده مثلا عشرات القصائد التي لم يصلنا منها سوى أغنية كوكب الشرق "أفديه" ولم ينتبه لتراثه صناع الأغنية، بل حتى أرباب الأدب أنفسهم. هو إذن مشروع طموح يكشف اللثام عن منجز مصر الشعري العربي منذ فتحها عمرو بن العاص، حتى منتصف القرن التاسع عشر حين ثبّت الشعر في مصر لنفسه موضعا راقيا بين فنونها، فظهرت قامات شعرية كان منها شاعر النيل وأمير الشعراء وغيرهما من رموز الشعر العربي. فمصر لها نصيب كبير في بناء الشعر العربي وقد آن الأوان أن نميط عنه اللثام ونقدمه للقارئ المصري، بل والعربي.
وهنا أيقنت أنه لا مجال للاختلاف مع المشروع، إذ إنه ليس مشروعا شوفينيا متعصبا، بل على العكس تماما، فهو مشروع قومي عروبي يؤكد عروبة مصر ويخدم لغتها العربية الفصحى. وإن كان- فيما يؤكد الشهاوي في مقدمته- أنه شعر "مصري" مكتوب باللغة العربية بلاغة وأسلوبا، لأن الشاعر المصري ابن لزمان ومكان مصريين، وابن لأبوين مصريين، وبيئة مصرية متفردة. فليس من المنطقي، خاصة لأهل الشعر والأدب والإبداع، أن يتجاهلوا أو يجهلوا تراث أجدادهم أمثال ابن سناء الملك، وابن نُباته المصري، والبهاء زهير، وابن النبيه. وفي هذا المشروع يسعى الشهاوي ومعه زمرة من كبار الباحثين إلى إعادة تراث هؤلاء الشعراء إلى الحياة مرة أخرى.
وحين أدركت أهمية المشروع ونبل رسالته اتصلت بالشهاوي لأشكره على فكرته وحماسه لها، فإذا بالرجل بكل موضوعية وتواضع يقول لي: الفضل في الفكرة لحماس د.بهي الدين فهو صاحبها وقد ائتمنني على تنفيذها وأن اختار لها من الباحثين من يتحمس لها، فيقضي مع أمهات الكتب أشهرا طويلة لينتقي لنا دررا منسية لشعراء صنعتهم مصر بحضارتها فصنعوا لها تراثها الشعري المتفرد، والذي تجاهلناه لقرون طويلة. وإن كان حماسي للفكرة لا ينفي وجود ملاحظة وحيدة عليه، إذ أرى أن النصوص الشعرية الواردة في الديوان تحتاج إلى بيان معاني كثير من المفردات، على افتراض أن هذه المادة المقدمة قد تصل إلى يد قارئ عادي غير متخصص في اللغة فهو في حاجة إلى الكشف عن معاني المفردات ليفهم النص ويستوعبه، وربما هذا هو ما فات القائمين على المشروع وأرجو أن ينتبهوا له في قادم الأعداد.