الإنجيليون والصهيونية "٢- ٢"
أستكمل في هذا المقال ما قلته في المؤتمر الذي عقدته لجنة الحريات بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر، يوم 3 فبراير 2023، بعنوان "فلسطين جوهر الصراع العربي الإسرائيلي".
يعتبر توماس بريتمان هو أول مسيحي يكتب باللغة الإنجليزية عام 1585م، مطالبا بتحقيق نبوات العهد القديم بإقامة دولة يهودية في فلسطين، إنه الرائد البريطاني للصهيونية المسيحية، ثم ظهرت جماعات التطهريين في القرنين 17 و18، وفسرت نبوات العهد القديم حرفيا، وجاء اللورد شافتسبيري وأثر بأفكاره في قادة الكنيسة والنخبة السياسية، وأفكاره هيأت الاستعمار الإنجليزي للشرق الأوسط والأراضي المقدسة، وهو أول من قال: أرض ليس لها شعب لشعب ليست له أرض.
ثم جاء جون نيلسون داربي 1880- 1955م، وكان قسا أيرلنديا وخرج من الكنيسة الأيرلندية وأسس حوالي 1500 كنيسة في أمريكا وأوروبا، متبنيا التفسير الحرفي لنبوات العهد القديم، ثم تبعه سكوفيلد وغيرهم، وكل ما سبق يؤكد أن المسيحيين الصهاينة سبقوا في تفسيرهم الحرفي نبوات العهد القديم الحركة الصهيونية بحوالي 60 سنة.
ولكن من المهم أن نؤكد أنه يوجد بروتستانت في العالم لا يؤمنون بالتفسير الحرفي لنبوءات التوراة التي تخدم المصالح الصهيونية، والكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر تنادي بأن دولة إسرائيل الحديثة، والتي سبقت قيامها ضغوط قوى سياسية دولية كثيرة حتى صدور وعد بلفور1917 وتصويت الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية 1947 وقيام الكيان الإسرائيلي 1948 باعتراف فوري أمريكي سوفيتي- لا علاقة لها على الإطلاق بنبوءات الكتاب المقدس، فالإنجيليون المشيخيون في أمريكا وأوروبا ومصر يؤمنون بأن دولة إسرائيل الآن لاعلاقه لها على ضوء الدراسة التاريخية اللاهوتية من قريب أو من بعيد بالنبوات القديمة، والتي تحققت فعلا في إطارها الزمني في العهد القديم واكتملت في دلالتها الروحية في العهد الجديد، وإن كل ما يقال حول عودة اليهود الآن وربط ذلك بهذه النبوءات ثم بمجىء المسيح ثانية وإقامة الهيكل ومعركة هرمجدون ونهاية العالم، إلى آخره- هو فكر لبعض الفرق، وهذا الفكر لا يتفق مع اللاهوت الكتابي، ولا يتفق كذلك مع عقائد الكنائس المسيحية الرسمية في كل العالم، وأكبر دليل على ذلك المقال الذي نشرته صحيفة اللواء اللبنانية عام 2004 تحت عنوان "قرار جرىء أين نحن من مثله؟" أشارت فيه إلى القرار الذي اتخذته الجمعية العمومية للكنيسة المشيخية في أمريكا، والقاضي ببيع الأسهم التي تمتلكها الكنيسة في الشركات التي تجني أكثر من مليون دولار سنويا من تعاملها مع إسرائيل أو الشركات التي تستثمر مليون دولار أو أكثر في عام واحد في إسرائيل، وقد جاء قرار الكنيسة المشيخية، والتي ينتسب إليها نسبة كبيرة جدا من قادة السياسة والاقتصاد والأعمال في أمريكا، ليتوج قرارات عديدة في اجتماعات كنسية سابقة نددت بممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، هذا القرار تجاوز الاستنكار إلى اتخاذ عمل إجرائي عقابي بحق إسرائيل، كما نددت الكنيسة بجدار الفصل الذي تقيمه إسرائيل، وطالبت بوقف العمل على إنشائه، ولذلك فإننا نرفض التعميم الذي يقع فيه بعض المفكرين الذين يعتبرون أن الخطاب الديني الأمريكي كله في مجمله مساند لإسرائيل، فإذا وجد خطاب يخلط أصحابه بين ما هو يهودي وما هو مسيحي، وبين الدين والسياسة، ويؤيدون مزاعم إسرائيل الحديثة عن الشعب المختار، وتفسيرهم الخاص بالمجيء الثاني للسيد المسيح ومقولة هرمجدون، فليس هذا هو كل الخطاب الديني الأمريكي، فهناك يوجد الخطاب الديني الأمريكي المعتدل المساند للشعب الفلسطيني الذي رفض وكشف كل المزاعم والأساطير التي تتبناها دولة إسرائيل، ورفض احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ومن هذا الاتجاه تكونت هيئة كنائس لسلام الشرق الأوسط، وهم زاروا الضفة الغربية وغزة مرات كثيرة، وهم على اتصال دائم بالإدارات الأمريكية المتعاقبة بالخطابات واللقاءات التي تنادي بدعم الحقوق الفلسطينية، وقيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وكان لهم لقاء مع كولين باول، وزير الخارجية الأسبق، وتركوا له وثيقة تؤكد أن احتلال إسرائيل لفلسطين سرطان يهدد المنطقة والعالم، وإنه ضد الأمن والسلام في كل المنطقة، وطالبوا بوقف المساعدات لإسرائيل في خطاباتهم للرئيس الأمريكي، وهذه القراءة للخطاب الديني الأمريكي ترينا الاتجاهات المتعددة من ناحية، وتحذرنا من التعميم الخاطئ الذي تركز فيه بعض الكتابات على الاتجاهات المتطرفة فقط، وتدعونا في النهاية إلى أن نقيم الجسور مع الاتجاهات المعتدلة التي تتفق مع لاهوتنا ومصالحنا الوطنية والقومية في الوقت نفسه.
ولا بد أن نحذر من خطورة التعميم، فليست جميع طوائف المسيحيين تنفرد بالتفسير الحرفي للنبوات، وليس كل الإنجيليين في الغرب وفي أمريكا لهم نفس التوجه الحرفي، وليس كل الذين لهم التوجه الحرفي للنصوص الكتابية صهاينة، بل هم حرفيون على أساس فهمهم وقراءتهم الخاصة للكتاب المقدس. كما أن مؤيدي إسرائيل في الغرب نجدهم في كل التوجهات لدوافع عديدة، سياسية وثقافية ودينية، وعندما نقول بروتستانت أو إنجيليين يجب أن نحدد من هم الإنجيليون بالتحديد، فليس كل البروتستانت والإنجيليين في الغرب وفي أمريكا لهم نفس التوجه الحرفي، وليس كل التيارات الإنجيلية تدعم الصهيونية، إذن ليس كل الـEvangelical في الغرب لهم نفس الاتجاه ونفس الفكر، ولذلك فبدلا من تعميم الكلام على البروتستانتية من الأفضل أن نقول «المسيحيون المتصهينون» وليس البروتستانتية وليس المسيحية الصهيونية.
وختاما، إن الكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر ترفض محاولة البعض تفسير الحقائق الكبرى في الإيمان المسيحي، مثل الحديث عن نهاية العالم ومجىء المسيح ثانية وربطه بالأحداث السياسية المعاصرة والمتغيرة، كامتلاك إسرائيل السلاح النووي ومحاولات تهويد القدس وهدم المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل وتعطيل مفاوضات السلام، حيث إن هذا الفكر يبني على تفسيرات حرفية لبعض نصوص ونبوءات الكتاب المقدس، وهذه النصوص تنتزع من خلفياتها التاريخية ولا تتفق مع الفهم الشامل لروح الكتاب المقدس ككل، وإن هذا التفكير الأصولي والحرفي ظهر أكثر قوة ووضوحا في أيام حكم ريجان للولايات المتحدة، وتلاقي هذا التفكير مع مخططات الحركة الصهيونية التي ظهرت منذ مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897، ولذلك فإنهم فصلوا بين النصوص وبين إطارها الزماني والمكاني، وسخّروا النبوءات المقدسة لخدمة أغراضهم السياسية وأطماعهم التوسعية، ومن ثم فليس مسيحيا على الإطلاق من يدعو للعنف، لذا فعلى من يؤججون الصراع ويخططون للعنف أن يقولوا لنا أي مسيح يتبعون وبأي مسيحية يدينون؟!!