زوجات الشهداء لـ«الدستور»: تمنوا لقاء ربهم.. ورحلوا عن الدنيا بأجسادهم ولم يرحلوا بأرواحهم وذكراهم الطيبة
تحتفل الدولة المصرية، هذه الأيام، بـ«يوم الشهيد»، الذى يحل فى التاسع من مارس من كل عام، لتخليد ذكرى أبطال مصر وشهدائها الأبرار، ممن دافعوا عن ترابها وسمائها وشعبها ومُقدراتها على مر الزمان، وعلى رأسهم الشهيد البطل الفريق أول عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، الذى استشهد فى اليوم ذاته من عام ١٩٦٩.
وفى ذكرى «يوم الشهيد»، حاورت «الدستور» عددًا من زوجات الشهداء الذين التحقوا بموكب الأبرار فى جنات الخلد خلال الحرب التى خاضتها مصر ضد الإرهاب، ضاربين أروع مثال للتضحية والوفاء والإيثار، لتتذكر معهن حكايات الأبطال وشيئًا من سيرتهم العطرة، التى ستظل مثالًا يقتدى ونبراسًا ينير حياة الأجيال الحالية والقادمة.
زوجة الشهيد أحمد عبدالمحسن السيد: كان صائمًا وصلَّى قبل المداهمة واستشهد فى منزل «مفخخ»
قالت الدكتورة رشا السعداوى، إخصائى طب الأسرة، زوجة الشهيد عميد أركان حرب أحمد عبدالمحسن السيد الدسوقى، إن زوجها كان بطلًا فى عمله، وجميع من حوله شهد له بذلك، وكان أيضًا بطلًا فى حياتها الخاصة وحياة كل شخص تعرف عليه.
وأضافت الدكتورة رشا: «كان أحمد إنسانًا نادر الوجود؛ فى إحدى المرات سألته (أحمد هو إنت قاعد فى المدينة الفاضلة؟ إنت إزاى متسامح كدا؟)»، مشيرة إلى أن الشهيد التحق بالكلية الحربية عام ١٩٩٥ وتخرج فيها عام ١٩٩٨ ثم تدرج فى الوظائف القيادية المختلفة إلى أن أصبح رئيس أركان أحد التشكيلات التعبوية بالجيش الثانى الميدانى بسيناء.
ولفتت إلى أن الشهيد تعرض لإصابتين قبل استشهاده، الأولى كانت عام ٢٠١٧، عبارة عن شظايا ورصاصة فى ساقه اليمنى لم يستطع الأطباء إخراجها، وتسبب الأمر فى عدم القدرة على تحريك أحد أصابع هذه القدم نهائيًا، وظل بهذه الإصابة حتى وفاته، ورغم ذلك لم يتقاعس عن عمله نهائيًا.
وتابعت: «أما الإصابة الثانية فكانت عام ٢٠٢٠، قبل استشهاده بـ٦ أشهر، وهى عبارة عن كسر فى ضلعين وفقرتين فى الظهر وتهتك فى الرئتين نتيجة عبوة ناسفة، وجرى نقله للرعاية المركزة، وفور بدء تحسنه ذهب مسرعًا لشمال سيناء مرة أخرى للقيام بواجبه الوطنى».
وأشارت إلى أنه بعد إصابة الشهيد الثانية رأت شخصًا آخر بمعنويات منخفضة وحزن شديد، وعلمت بعد ذلك أن السبب هو عدم نيل الشهادة حتى الآن، مؤكدة أن زوجها تبدل حاله فى آخر ٦ أشهر قبل الاستشهاد: «كان بشوشًا للغاية وخفيف الظل، ثم أصبح صامتًا لا يرغب حتى فى وداعنا قبل سفره، خاصة فى الإجازة الأخيرة له».
وأفادت الزوجة بأنه فى آخر إجازة للشهيد أوصاها بأن تذهب لشراء هدية زواج لشقيقته رغم أنه ما زال هناك الكثير من الوقت على موعد الزفاف، وكأنه يشعر بقرب استشهاده وأنه لن يستطيع أن يهديها هدية الزواج بعد ذلك.
كما طلب منها أن يذهبا لزيارة والدتها، وحينها شكت فى إصابة والديها بكورونا فطلبت من الشهيد أن تذهب إليهما بمفردها، فرد عليها: «أنا هاروح قبلك»، وبالفعل ذهبا ووجدا والدتها مريضة جدًا، فنقلها الشهيد إلى المستشفى وجرى تشخيصها بالفعل بفيروس كورونا.
وتابعت: «زوجى أصيب بكورونا بعد نقل والدتى، وكان حريصًا للغاية على ألا يخبرها بذلك حتى لا تتأذى نفسيًا (كان هو اللى بيطبطب عليا، وهو عيان عشان أنا كنت قلقانة على ماما)».
وأشارت إلى أن الشهيد فى ذلك الوقت حصل على إجازة ٢٠ يومًا إلى أن تعافى من المرض، ثم سافر لعمله على الفور، وبعد أسبوع استشهد فى منزل مفخخ فى سيناء.
وقالت: «علمت بخبر استشهاده من خلال مكالمة هاتفية وأنا فى عملى، حيث سألنى المتصل (هل أنت زوجة العميد أحمد عبدالمحسن) فأجبته دون خوف (نعم.. هل أحمد أصيب للمرة الثالثة؟)، فرد قائلًا: (لا يا فندم العميد أحمد استشهد)».
وأضافت: «حينها قلت (اللهم أجرنى فى مصيبتى) ثم بكيت.. كنت ماشية فى الجنازة حاسة إنى هاروح البيت أحكيله اللى حصل، كنت حاسة إنى فى كابوس وبطلب من الناس إنهم يصحونى ويقولولى إن دا ماحصلش».
وأكدت: «لكننى سرعان ما انتبهت أننى مسئولة الآن بالكامل عن أولادى، وأنهم يحتاجون لى قوية.. فكان لازم أكون قوية. ابنى الصغير جه قالى (إنتى بتعيطى ليه يا ماما؟ بابا كدا دخل الجنة وهو أصلًا كان عايز كدا)».
وكشفت زوجة الشهيد عن أنها لم تكن تعلم شيئًا عن شخصية زوجها فى العمل، ولم تر منه سوى الجانب الحنون العطوف، لكنها فوجئت بعد استشهاده بأنه كان له وجه آخر حازم وشجاع وقوى: «يهابه الجميع مع حبهم واحترامهم المطلق له.. زملاؤه قالوا لى (إحنا كنا بنستخبى وراه لما بنروح مداهمة) وكانوا يتعاملون معه على أنه أب لهم»، مؤكدة: «كل الصور والفيديوهات وحكايات الناس عنه أنا عرفتها بعد استشهاده».
وأوضحت الزوجة أن الشهيد كان بمثابة «زوج وحبيب وصاحب وأخ، عشت معاه حياة وذكريات يمكن واحدة غيرى ممكن تعيش العمر كله مع جوزها وماتحسش اللى أنا حسيت بيه».
وأضافت: «كان سندًا وظهرًا، وكان دائمًا يتحدث مع أولادنا قائلًا (دايمًا ربنا بيؤمركم إنكم تبروا والديكم، وأنا كنت بار معاكم الأول باختيارى لوالدتكم)»، مشيدة باحترامه لها ووضعه لها فى منزلة عالية للغاية.
كما أكدت أنه كان أبًا حنونًا لأقصى درجة على أولاده: «إحنا عندنا ٣ أبناء، وعمرى ما شوفت راجل فى حنيته على ولاده، ولما كان حد فيهم بيتعب كنت بشوف الدموع فى عنيه حتى لو عندهم مجرد كحة، وكان دايمًا يحسس كل واحد فيهم بأنه أهم حد فى حياته».
وأشادت بتعامل زوجها مع أشقائه كأب: «والدته توفيت وهو ابن ١٢ عامًا، ثم تزوج والده من أخرى وأصبح لديه إخوات غير أشقاء»، مُتذكرة أنه عندما كان يحضر فرح أحدهم كان يبكى وكأنه والدهم بالفعل، ولم تشعر بأنه أخ غير شقيق لهم نهائيًا.
وتابعت: «كان متواضعًا لأقصى حد ومستمعًا جيدًا لجميع المحيطين به، كما أنه كان يسعى دائمًا لحل مشاكلهم.. وكان دايمًا يقول لى: (الحمد لله إننا بنساعد ومش بنحتاج لحد)».
وأشارت إلى أنها كانت دائمًا رافضة فكرة أنه يمكن أن يذهب عن عالمها ويتركها، لذلك لم يكن يتحدث الشهيد معها عن عمله نهائيًا، غير أنه كان فى كل إجازة يعطيها «مسكًا» اشتراه من المدينة المنورة بالسعودية، ويقول لها: «رشا دا المسك اللى هاتغسل بيه.. اوعى تنسيه».
وتابعت: «أصعب فترة فى عمر زواجى الذى دام ١٦ عامًا، كانت آخر ٦ أشهر، حين بدأ الشهيد فى أن يمهد لى فكرة أنه سيرحل.. ربنا بيحبه لأنه استشهد فى محيط عمله زى ما هو عايز.. زوجى استشهد صائمًا وأوقف المداهمة ليصلى الظهر ثم دخل منزلًا مفخخًا».
زوجة الشهيد محمد على العزب: نال الشهادة بعد زواجنا بـ7 أشهر وأوصى بأن أُسمى ابنته «حرة»
«كان حافظًا لكتاب الله وصاحب رأى مسموع رغم صغر سنه»، بهذا بدأت «آية»، زوجة الشهيد الرائد محمد على العزب، حديثها عن البطل الراحل، الذى ولد فى قرية الرجيبة بمحافظة الغربية فى شهر ديسمبر من عام ١٩٨٨، موضحة أنه نشأ وتعلم فى معاهد الأزهر الشريف، وظل دائمًا من الأوائل على دفعته منذ المرحلة الابتدائية حتى الثانوية، إلى أن حصل على مجموع كبير بالثانوية الأزهرية يؤهله للدخول إلى إحدى كليات القمة، لكنه اختار، بدلًا من ذلك، دخول الكلية الحربية التى أحبها.
وأشارت إلى أن الشهيد تخرج فى الكلية الحربية بسلاح المدرعات فى عام الثورة ٢٠١١، وكان أحد الأوائل على دفعته، وحصل على تكريم من الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك.
ونوهت إلى أن الشهيد بدأ عمله فى المنطقة المركزية بالقاهرة، وعمل فى ميدان التحرير بعد الثورة، ثم انتقل للعمل فى إحدى الكتائب بالإسماعيلية ثم التحق بإحدى الكتائب بسيناء، وكان قائد سرية مدرعات بالجيش الثانى الميدانى.
ولفتت إلى أن الشهيد محمد على العزب لم يخبر العائلة بعمله فى سيناء حتى لا يقلق عليه أحد، خاصة أن هذه الفترة كانت تشهد حربًا شرسة مع الإرهاب، لكنه لم يتردد أبدًا فى أداء واجبه الوطنى.
وعن سماته الشخصية، قالت زوجة الشهيد: «كان محمد حافظًا القرآن الكريم، ويتمتع بحب شديد من جميع المحيطين به، ورغم صِغر سنه كان له رأىٌ سديد وتقدير من كل من حوله، خاصة أنه كان يعرف جيدًأ كيف يزن كلامه، ويتودد إلى كل المحيطين به، ويقف دائمًا مع جانب الحق، حتى إن كثيرين بعد وفاته تساءلوا: مين هيجيب لنا حقنا دلوقتى؟».
وذكرت «آية» أنها تمت خطبتها على الشهيد محمد العزب فى عام ٢٠١٢، واستمرت الخطبة لمدة ٣ سنوات، إلى أن تزوجا فى عام ٢٠١٥، ولمدة ٧ أشهر فقط، قبل أن ينال الشهادة فى ٢٣ فبراير ٢٠١٦.
وأضافت: عند استشهاده كنت حاملًا بالشهر الخامس فى مولودتنا «حُرة»، التى اختار محمد اسمها بعدما التقى طفلة فى إحدى مأمورياته بمدينة الشيخ زويد وسألها عن اسمها فقالت له: «اسمى حُرة»، وحينها تواصل معى هاتفيًا وأخبرنى بأنه سيسمى المولود «حرة» إذا كانت فتاة.
وعن آخر لقاء لها معه، قالت زوجة الشهيد: «كان آخر لقاء بيننا هو قبل استشهاده بيومين فقط، وحينها أوصانى كثيرًا بأن أعتنى بنفسى وبالمولودة التى كنا قد عرفنا أنها ستكون بنتًا، وكأنه كان يشعر بقرب استشهاده، وبعدها سافر إلى عمله بسيناء، وقبل استشهاده بساعات قليلة تواصل معى هاتفيًا ليطمئن علىّ، وقال لى: (خدى بالك من نفسك ومن حُرة)».
وذكرت أنها حاولت فى يوم الاستشهاد التواصل مع زوجها فى الموعد المعتاد لكن وجدت هاتفه مغلقًا بشكل دائم، ثم شعرت بعد قليل بحركة غير عادية فى الشارع، وعندما خرجت لتستطلع الأمر وجدت عددًا من الجيران يقفون أمام المنزل ويتحدثون بصوت منخفض، وعندما سألتهم عن الأمر لم يجبها أحد، وبعد إلحاح أخبرتها إحدى الجارات بخبر استشهاد زوجها.
وتابعت: «علمت بعد ذلك أنه تم التواصل مع خال الشهيد لإخباره بالخبر، لكنه لم يستطع أن يخبرنا بالأمر، وتواصل مع الجيران ليقوموا بهذه المهمة»، لافتة إلى أنهم أخبروها فى البداية بأن البطل استُشهد نتيجة إصابة بالرأس، لكنها علمت بعد ذلك أنه استُشهد نتيجة عبوة ناسفة أثناء تمشيط منطقة كرم القواديس بسيناء.
وفى ختام حديثها لـ«الدستور»، تقدمت «آية»، زوجة الشهيد الرائد محمد على العزب، بالشكر للرئيس عبدالفتاح السيسى على ما يقدمه من خدمات لأسر الشهداء، قائلة: «الرئيس مش متأخر علينا فى حاجة خالص، وبيحاول دائمًا تلبية كل طلباتنا واحتياجاتنا، وعشان كده مش حاسين أبدًا إننا لوحدنا».