أيام فى محطة مصر
فى إحدى زياراتى للشاعر الراحل الخال عبدالرحمن الأبنودى بمنزله فى المهندسين.. لاحظت أنه حريص على زينة الصالون، الذى يستقبل به الضيوف بديكورات شعبية أقرب إلى عالم الصعيد، من أول لوحات الحائط حتى براد الشاى والصينية النحاس المنقوشة التى يضعه عليها.. تخيلت أن شغفه بكل ما هو شعبى هو السر الذى يطارده فى اختياراته أو ربما هو ذوق الإعلامية الكبيرة زوجته نهال كمال، ربما تقربًا إلى عالمه الخاص.. لكنه حينما لاحظ انبهارى واستغراقى فى تأمل التفاصيل.. راح يسرد لى بطريقته المحببة بعض تفاصيل أيامه الأولى فى القاهرة قبل أن يمتلك فيها بيتًا.. أو أربع حيطان، على حد تعبيره.. حكى أنه عندما قرر البقاء هنا.. فى مصر يعنى.. ومغادرة الصعيد.. لم يكن له أقارب يمكنهم استضافته فترات طويلة.. ولم تكن بيوت الأصدقاء قد أنست إليه بعد.. فكان كثيرًا ما يبيت فى محطة مصر.. تخيلت أولًا أنه يبيت فى لوكاندات كلوت بك الشهيرة أو الرخيصة التى يلجأ إليها العابرون من زوار القاهره ليوم أو يومين.. لكنه صدمنى بأنه لم يكن من الأساس يملك أجرة هذه اللوكاندات، فضلًا عن أنه لا يطيقها من الأصل.. لقد كان يبيت فى مقاهى المحطة.. حيث لا يتوقف المسافرون إلى بحرى أو الصعيد.. بالبلدى... هذه المقاهى لا تنام.. أذكر أنه وصف لى باب الحديد بأنه لم يكن مجرد باب.. هو بوابة أسطورية فى خيال القادمين.. خلفها عالم قديم فيه الأهل والناس والونس.. البيوت والنخيل والنيل.. وأمامها سحر القاهرة والنجاح والعالم الجديد الذى يحلم أن يكون أهم شاعر فيه.. عالم غامض.. قريب جدًا وبعيد جدًا وباب الحديد هو الحد الفاصل بيننا وبينه... باب الحديد عالم كبير.. أكثر اتساعًا من عيون يوسف شاهين وهنومة.. وفيلمهما الشهير.
فى ذلك الوقت كنت مجرد ضيف على هذه البلاد الغريبة.. وفى كل مرة أعبر فيها ذلك الباب أذكر الصورة التى رسمها الخال لى.. ثلاثون عامًا مضت وهى فى ذاكرتى.. تنط كلما ذهبت إلى هناك لاستقبال قريب قادم أو وداع قريب راحل.. عائد إلى البلاد الأحب فى الجنوب.. صارت المحطة جزءًا منى لا يمكننى تجاهله كلما مررت حتى من بعيد.
الآن تجرى على قدم وساق عمليات تطوير هذه المحطة ضمن مشروع أكبر للمنطقة المحيطة بها على مساحة ١٨فدانًا ويزيد.. القللى والسبتية وما بينهما من مناطق عشوائية لا يستقيم وجودها مع كل ذلك الجمال.. ويتسق مع ما جرى ويجرى تطويره فى منطقة مثلث ماسبيرو.. فى نفس الوقت الذى نستعد فيه لافتتاح وتشغيل المحطة الجديدة فى بشتيل.. هذه القطعة الخرافية التى ستدهش كل من يراها.. ستصبح فى ذاكرة الأجيال الجديدة من القادمين من الجنوب والعائدين إليه بوابة أخرى للسحر الذى خطف عقل وقلب الأبنودى من قبل.
لست من الذين يتعاملون مع المبانى والمشروعات الهندسية على أنها مجرد مبانٍ ومساحات وأجهزة.. دومًا أشعر بأنها أرواح تدخلنا وتسكن فلا نستطيع مفارقتها.. لكن الدول والأفراد فى العالم كله يعرفون قيمة أن تبنى.. الحضارات ليست مجرد سطور يكتبها المؤرخون فنحفظها ونرددها.. هى فى الأصل مبانٍ وطرق وبحيرات وترع وأشجار.. هى تفاصيل حياة البشر الذين أنجزوها ومن مروا بها واستمتعوا باستعمالها حتى ولو لم يشعروا بذلك فى حينها.
بشتيل.. كانت بالنسبة لى ولكثيرين مجرد اسم لمدينة صاخبة مزدحمة وعشوائية.. الآن بوجود هذه المحطة صارت بعثًا مختلفًا.. المساحات التى جرى ويجرى تطويرها بالقرب من المحطة الجديدة صارت حياة مختلفة عما قبل.. وأعتقد أننا لن نشعر بما جرى فيها الآن.. لكنها قطعًا لن تصبح مجرد خبر فى نشرة أخبار السادسة.