نحو إنهاء أزمة سعر الصرف
في خطوة ليست مفاجئة، قررت لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي في اجتماعها الاستثنائي تحرير سعر صرف الجنيه بغرض القضاء على السوق السوداء.
الإجراء سبقه عدة قرارات، من شأنها كبح جماح معدلات التضخم المتصاعدة، التي أثرت على أسعار السلع والخدمات الأساسية، وأرهقت كاهل المواطنين، حيث عانت مصر من أزمة حادة في النقد الأجنبي منذ مارس 2022، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، فضلًا عن التداعيات المتبقية من أزمة كورونا، بالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية التي تعيشها المنطقة وانعكست على معظم اقتصادات دولها، ما دفع التضخم في مصر إلى مستويات قياسية.
أول هذه القرارات كان رفع سعر الفائدة بواقع 600 نقطة أساس؛ بهدف استقطاب السيولة لدى القطاع العائلي؛ لتقليل المعروض النقدي، وهو إجراء اقتصادي كلاسيكي تلجأ إليه الحكومات عندما تنفلت معدلات التضخم، وتخرج الأسعار عن السيطرة.
جزء لا بأس به من التضخم في مصر يطلق عليه اسم "التضخم المستورد"، الناجم عن الضغوط التضخمية العالمية، تزامنًا مع تعرض الاقتصاد العالمي لصدمات متتالية. وفي الدول التي تستورد معظم حاجياتها من الخارج كمصر، يدخل معدل التضخم في دولة المنشأ ضمن حساب تكاليف السلع والمنتجات المستوردة منها مما يرفع أسعارها. وهذا النوع يطلق عليه اسم "تضخم التكلفة".
لم يكن أمام صانع القرار المصري إلا اللجوء إلى قرارات عاجلة للسيطرة على الموقف في الوقت الراهن، مع عدم الخوض في الحديث عن السياسات المتوقعة على المدى البعيد باعتبارها تتوقف على عوامل عدة لا تقتصر على السياسات الاقتصادية وحدها.
في تعليق رئيس مجلس الوزراء على إجراءات البنك المركزي، قال إن هذه القرارات تأتي في إطار مواصلة جهود التحول نحو إطار مرن لاستهداف التضخم، مع السماح لسعر الصرف أن يتحدد وفقًا لآليات السوق بهدف توحيد سعر الصرف، وهو إجراء بالغ الأهمية يسهم في القضاء على الطلب المتراكم على النقد الأجنبي.
الرجل بدوره كرئيس للوزراء ومسئول عن صياغة السياسات الاقتصادية، تعهد باستمرار الحكومة في سياسات ترشيد الإنفاق خلال هذه المرحلة؛ بما يسهم في تخطي التحديات الاقتصادية التي تتسم بها هذه الفترة.
ترشيد الإنفاق الحكومي هو أحد الإجراءات الانكماشية التي تلجأ إليه الحكومات في حالات ارتفاع معدلات التضخم. والإنفاق الحكومي في حد ذاته ينقسم إلى استهلاكي لا ينُتظر من ورائه عائدات، واستثماري في المشروعات الإنتاجية والبنية التحتية وغيرها ويدخل ضمن خطة الدولة التنموية طويلة الأجل، وعليه فإن الإنفاق المقصود في خطاب رئيس الوزراء هو الإنفاق الاستهلاكي.
هدف الدولة من وراء تلك الإجراءات يتمحور حول خفض معدلات التضخم، وضبط الدين العام والانتقال به إلى مسار نزولي بالتزامن مع الاستمرار في إجراءات برنامج الإصلاحات الهيكلية الذي يركز على دفع القطاعات الإنتاجية "الصناعة والزراعة والتعدين وغيرها".
في بيان البنك المركزي الذي أعلن فيه قراراته، شدد على أن توحيد سعر الصرف هو إجراء ضروري لإغلاق الفجوة بين سعر صرف في السوقين الرسمية والموازية، حيث سيسهم القرار في تحجيم التقلبات السعرية الحادة لأغلب السلع والخدمات، بعدما عانت السوق المحلية، منذ العام الماضي، من ظاهرة "الدولرة" التي تعني حيازة الدولار كمخزن للقيمة، إضافة إلى تسعير السلع بالدولار غير الرسمي، ما تسبب في زيادة معدلات التضخم.
بحسب الاقتصاديين، فإن معامل الخطر الوحيد في هذه القرارات يكمن في عدم امتلاك البنك المركزي السيولة الدولارية الكافية لمستلزمات الاستيراد، وهو ما يفسر سبب تأجيل تلك القرارات لما بعد إتمام صفقة "رأس الحكمة"، وانتظار تحول كامل الدفعة الأولى من قيمة الصفقة إلى خزائن البنك المركزي.
الارتفاعات اللحظية في سعر الدولار بالبنوك بمجرد إعلان القرارات لم تكن مفاجئة، حيث توقع الاقتصاديون أن يتحرك سعر الدولار بعد التعويم بين 48 و50 جنيها، على أن يتراجع فيما بعد إلى مستويات 42 قبل أن يستقر لاحقا عند مستويات 36 جنيهًا للدولار.
من ضمن الأعراض الجانبية المتوقعة للإجراءات، تأتي التلقبات الحادة في سعر الجنيه لمدة لا تقل عن أسبوع، وهو أحد الأعراض الطبيعية المصاحبة لقرار تحرير سعر العملة في أي بلد، ما يستلزم تحرك الحكومة وأذرعها الإعلامية فورًا لتوضيح طبيعة تلك التقلبات المؤقتة وطمأنة الأسواق والمواطنين على حد سواء.
توجه البنك المركزي لسعر صرف مرن قائم على آليات العرض والطلب يوضح إلى حد ما طبيعة برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يستهدف بشكل رئيسي حل مشكلة العملة الصعبة نهائيا، وإتاحتها من خلال القطاع المصرفي فقط ما يسهم في استقرار الأسواق والقضاء على عشوائية التسعير.
تحرير أو توحيد سعر الصرف من شأنه أن يساعد في سرعة الإفراج عن البضائع المكدسة في الموانئ وخاصة مستلزمات الإنتاج، فضلًا عن الإسراع بفتح الاعتمادات المستندية للشحنات الجديدة، بما يعطي جرعة إفاقة لقطاعات الاقتصاد المتكلسة بسبب شُح الدولار.
تأسيسا على هذه الحقيقة، وبمجرد إعلان قرارات البنك المركزي، أعلن رئيس الوزراء أنه سيشرف بدءا من الغد على عمليات الإفراج عن السلع والبضائع في الموانئ المصرية لعدة أشهر بسبب نقص العملة الأجنبية، مع إعطاء الأولوية للمواد الغذائية والأدوية ومستلزمات الإنتاج.
لم تكن الحكومة قادرة على اتخاذ قرار الإفراج عن البضائع دون سيولة دولارية كافية، وهو ما يشير مرة أخرى إلى أهمية صفقة "رأس الحكمة".
الإفراج عن البضائع، وخصوصًا المواد الغذائية سيسهم في تقليل أسعارها مع حلول شهر رمضان المبارك الذي دائما ما يشهد زيادة معدلات إنفاق الأسرة المصرية على الغذاء، كما أنه سيؤدي إلى تهدئة الأسواق نظرًا لزيادة المعروض.
يبقى أن تشدد السلطات المعنية الرقابة على الأسواق الفترة المقبلة خاصة بعد تحديد سعر استرشادي لسبع سلع أساسية، مع عدم السماح بأنشطة المضاربة والدولرة مرة أخرى لعدم العودة إلى ظاهرة السوق السوداء واختلال نظم التسعير.
من الإجراءات المهمة التي ينبغي على الحكومة الإسراع في تطبيقها، هو البحث عن آلية لجذب تحويلات المصريين في الخارج عبر القطاع المصرفي الرسمي، باعتبارها أحد أهم مصادر الدخل الدولاري للدولة المصرية إلى جانب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ما يشير إلى ارتباط بنود برنامج الإصلاح الاقتصادي ببعضها البعض، أن مصدرًا رفيع المستوى أعلن اقتراب إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بعد نجاح الحكومة في تحقيق أهم مطالبه بتحرير سعر الصرف، والشروع في برنامج الطروحات العامة.
توقيع الاتفاق مع الصندوق من شأنه تعزيز الثقة في الإجراءات المتبعة، بما يؤدي إلى وضع الاقتصاد المصري مرة أخرى على خريطة الأسواق المالية الدولية بعد عزوف رءوس الأموال عن الاستثمار في مشتقات الجنيه بسبب اختلال سعر الصرف.
هذه الفرضية يرجحها ارتفاع أسعار السندات المصرية في الأسواق العالمية فورًا بمجرد إعلان قرارات البنك المركزي.
ينبغي الآن على الحكومة مراجعة فاتورة وارداتنا السلعية ووقف استيراد الأشياء غير الضرورية. بعبارة أوضح عدم السماح إلا باستيراد الأشياء التي لا غنى عنها كالغذاء والطاقة ومستلزمات الإنتاج وعدم التوسع في الإنفاق الدولاري حاليًا لحين عودة التوازن إلى سعر الصرف.