«فلسفة الشارع».. كتابات جديدة تكسر جمود اللغة الأكاديمية
لطالما وجهت تهمة البقاء فى الأبراج العاجية إلى الفلسفة والفلاسفة، وعدت القضايا الفلسفية إشكاليات نخبوية وتمارين عقلية لا تمت إلى الواقع المضطرب بصلة، كان هذا سببًا رئيسيًا فى مجافاة تبلورت على مدار العقود بين المثقفين والمجتمع، وهى إشكالية تبلورت فى أحاديث متتالية ومتجددة بتجدد معطيات الواقع، سواء على المستويين العالمى أو العربى. بعيدًا عن الأسباب الأخرى التى تجعل الحضور الفلسفى على المستوى العربى خافتًا، فإن إنزال الفلسفة من عرشها النخبوى ظل محاولة تتجدد وفق معطيات كل مرحلة ومستجداتها، وفى السنوات الأخيرة يمكن ملاحظة الاهتمام بهذا التوجه نحو فلسفة مبسطة، أو تطبيقية، يطلق عليها غالبًا «فلسفة الحياة اليومية»، وفى أحيان أخرى «فلسفة الشارع»، التى استقطبت القراء غير المتخصصين.
ترتكز فلسفة الحياة اليومية على فهم الجوانب الفلسفية للحياة اليومية والتفكير فى معانيها وقضاياها الأساسية، ومن ثم فهى تتعامل مع الأسئلة الأساسية حول وجودنا وتجاربنا اليومية، وتسعى إلى الفهم العميق للحياة والمعنى والقيم، طارحة عددًا من الأسئلة على رأسها: ما المعنى الحقيقى للحياة؟ وما أهدافنا؟، كيف يمكن تحقيق السعادة والرضا؟ وما القيم التى يجب أن نعيش وفقًا لها فى حياتنا اليومية؟ وكيف يؤثر الوعى بالذات والتفاعل مع الآخرين على تجربتنا اليومية؟
مدرسة الحياة وظلال الفلسفة
يمكن فى هذا الصدد النظر إلى المشروع المترجم حديثًا عن دار التنوير فى سلسلة تحمل عنوان «مدرسة الحياة»، وهى مجموعة من الكتب للكاتب السويسرى آلان دو بوتون تنحو باتجاه الانطلاق من منظور الفلسفة نحو النظر فى قضايا حياتية راهنة تخص جميع الأفراد على المستويين الفردى والجمعى. هذه السلسلة، حسبما يشير تقديمها، تهدف إلى مساعدة الناس فى عيش حياة أكثر إشباعًا، وتعزيز طبائع أعمق تفكرًا، والعثور على حياة مشبعة، وهى مورد لاستكشاف العلاقات ومعرفة الذات والعمل والاستمتاع بالثقافة.
تضم السلسلة كتاب «مدخل إلى الفلسفة- أفكار كبيرة لعقول متعطشة»، الذى ترجمه إيهاب عبدالحميد، وهو كتاب ينطلق من الفلسفة ليجرى محادثات حول الأسئلة التى نواجهها فى حياتنا اليومية، ومن ثم يبدأ من مقدمات بعض الأفكار الفلسفية الأكثر حيوية للنظر فى المواقف التى نستطيع فيها رؤية الفارق بين الطرق الحكيمة وغير الحكيمة فى التعامل مع ما يحدث من أمور، ولتوضيح كيف تساعد الفلسفة فى الطريقة التى نتعامل بها مع مشكلاتنا. ومن الأفكار التى يرتكز عليها الكتاب بعض ما طرحه الفيلسوف «سينيكا» عن التشاؤم؛ باعتباره ضامنًا لتحقيق السعادة، وما تحدث عنه «بوذا» من ضرورة تقبل أن الأشياء لن تصير مثالية أبدًا لتحقيق الاطمئنان والراحة فى الحياة.
وتشمل السلسلة، أيضًا، كتبًا مثل «مسرات صغيرة: متع الحياة الصغيرة التى تفتح آفاق السعادة»، و«عمل تحبه»، الذى يبحث فى طريقة عيش حياة أكثر إشباعًا، وتعزيز طبائع أعمق تفكرًا تساعد الجميع فى العثور على حياة مشبعة راضية، وفهم النفس للعثور على عمل مناسب، وكذلك كتاب «العلاقات: كيف تختار الصداقة والحب»، وهى كتب ربما تساعد فى إعادة التفكير فى سبل تأسيس حياة أفضل، ورغم أن صلتها بالفلسفة أحيانًا قد لا تكون ظاهرة بشكل واضح، فإن ظلال الفلسفة تبقى حاضرة وموجهة لدفة الحديث.
بشكل عام، يمكن اعتبار الكتابات الفلسفية لآلان دو بوتون مندرجة تحت عنوان فلسفة الحياة، حتى تلك التى سبقت سلسلة «مدرسة الحياة»، فكتبه «عزاءات الفلسفة: كيف تساعدنا الفلسفة فى الحياة»، و«كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك»، و«قلق السعى إلى المكانة» تحضر فيها الفلسفة بصورة أكثر وضوحًا، وربما أكثر عمقًا دون أن يتخلى عن البساطة والاقتراب من الأزمات المعيشية.
الفلسفة التطبيقية عربيًا
على المستوى العربى يمكن رصد تجارب حاولت أن تتبع المسار ذاته، ففى طبعة من كتاب «مدخل جديد إلى الفلسفة النظرية والتطبيقية»، الصادر عن دار «بتانة» للدكتور مصطفى النشار، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، رئيس الجمعية الفلسفية المصرية، مقرر لجنة الفلسفة والاجتماع والإنثروبولوجيا بالمجلس الأعلى للثقافة، يكتب «النشار» من منطلق الحاجة بالعالم العربى إلى فلسفة تطبيقية لا تكتفى بتبسيط الفلسفة، ولكنها تقدم حلولًا للقضايا العامة التى تواجه المجتمع والمستقبل.
يحدد «النشار» هدفه من الكتاب، وهو أن يصير القارئ قادرًا على إدراك الدور الحقيقى الذى لعبه الفلاسفة على مر العصور لدفعه نحو المشاركة فى عصره بالاستفادة من مشاركة الفلاسفة فى وضع الحلول لمشكلات العصر، ولرسم خطط التقدم، لا سيما أن العقلية العربية مطالبة أكثر من أى وقت مضى بالتفاعل مع أفكار العصر والحوار مع الآخرين؛ حتى يمكن مواجهة تحدياته التى يفرضها يومًا بعد آخر.
يرى المؤلف أن تنامى الوعى بأهمية الفلسفة ودراستها والقراءة فيها هو المقدمة الضرورية لهذا التفاعل مع العصر، ومن ثم يشرع فى تبسيط أبرز أفكار الفلسفة اليونانية حول النفس والدولة والتوفيق بين الواقع والمثال الأخلاقى، ثم الفلسفة الإسلامية وما طرحته حول قضية التوفيق بين الدين والفلسفة، وعوامل نشأة الفكر الفلسفى عنده لينطلق صوب الفلسفة الحديثة والمعاصرة ومناقشاتها فى مشكلة المعرفة والعلم، وأخيرًا مشكلات الفكر العربى المعاصر بدءًا من مشكلة الأصالة والمعاصرة، وصولًا إلى مشكلة العولمة والهوية الثقافية وتحول المجتمعات العربية إلى مجتمعات استهلاكية مستوردة.
يهتم «النشار» فى أعمال أخرى له بما تتيحه الفلسفة التطبيقية من آفاق، ففى كتابه «فلسفة السعادة» يتحدث عن السعادة والفضيلة ومنغصات تحقيقهما، متطلعًا لأن يقرأ الشباب عن تصورات الفلاسفة عن السعادة من خلال تصنيف مقولاتهم عنها، وليس من خلالهم كأشخاص، بتوضيح رأى الفلاسفة فى ماهيتها ومسبباتها والمنغصات التى تحول دونها وعلاقتها بالحب والعمل، وغير ذلك من الآراء الفلسفية، وليصل بالنهاية إلى أن الإنسان السعيد ببساطة هو الذى يرضى بموقعه من الحياة دون أن يتغافل عن الممكنات التى يمكن أن يحقق بها أهدافه وطموحاته فى الحياة.
الفلسفة وكرة القدم
من الكتابات الحديثة اللافتة فى ربطها بين الفلسفة والحياة كتاب «عالم مو.. عندما يركل الفلاسفة الكرة»، الصادر مؤخرًا عن «دار ريشة». فى هذا الكتاب يحاول أستاذ الفلسفة ياسر قنصوة أن يُفلسف «كرة القدم»، من منظور أن ما يحدث فى كرة القدم يمكن اعتباره نموذجًا للحياة أو صورة منها، انطلاقًا من أن الفلسفة كانت مرتبطة بالحياة منذ بدايتها مع الفلاسفة اليونانيين فى العصر القديم.
يقول قنصوة: «ما من نموذج للعب يجسد الحياة كما كرة القدم، ومن هنا أطرح سؤالى الفلسفى: هل يدور لعب كرة القدم داخل رءوسنا أم خارجها؟.. تتيح هذه الشذرات الفلسفية والأدبية الفرصة للقارئ أن يتأمل بعمق ويشاركنا الحوار الخصيب حول عالم كرة القدم».
يربط الكتاب برشاقة بين الحياة وكرة القدم، ففى إحدى التفاتاته يعتبر المؤلف أن الاستدارة الكروية تلخص مفهوم العدالة؛ فكل نقطة على سطح الكرة تبعد بنفس المقدار الذى تبعده كل نقطة عن مركز الكرة، والكل متساوٍ فى حظوظ الفوز باللعب، وهو المشهد الذى يصدق على مشاهد أخرى من الحياة.
ويتأمل الكاتب فى تحول حوارى وملاعب الكرة الشعبية، حيث يلعب الفقراء الكرة من أرخص وسيلة إنسانية للحركة وتفريغ الطاقة والمتعة وهواية واستمتاع إلى مخططات للدعاية والربح، كما يحلل أشكال بروز الشعار الميكافيللى «الغاية تبرر الوسيلة» فى كرة القدم.
ومن اللقطات اللافتة، حديثه عن رحلة اللاعب المصرى محمد صلاح نحو تحقيق ذاته؛ باعتبارها سعيًا نحو تحقيق الوجود الأصيل، ويوضح ذلك بقوله: يمكن تفهم موقف مو من الكرة من خلال ما ذهب إليه الفيلسوف الوجودى سارتر من تحليله للوجود العينى المفرد، فالوجود الحقيقى هو الذى تشعر فيه الذات الإنسانية بأنها قائمة بنفسها، مسئولة عن وجودها وقادرة على اتخاذ القرارات بوعى كامل بالأوضاع المحيطة، أما الوجود الزائف فإنه انفصال الفرد عن إمكاناته الذاتية.
الطمأنينة الفلسفية وخيبات الأمل
قبل سنوات، كان الباحث المغربى سعيد ناشيد قد أولى اهتمامًا كبيرًا بعدد من كتبه بفلسفة الحياة اليومية، ففى كتابه «الوجود والعزاء.. الفلسفة فى مواجهة خيبات الأمل»، يحدد دور الفلسفة فى مساعدتها فى إعادة صياغة أفكار الفرد على نحو يخدم قدرته على عيش الحياة، فدور فلاسفة العيش يكمن فى تقديمهم الدروس عن الحياة الجيدة التى يكون فيها المرء قادرًا على عيش الحياة بفاعلية.
وفى كتاب آخر له بعنوان «الطمأنينة الفلسفية» يُلح على فكرة أن الفلسفة طريقة لمعرفة النفس، فحين «تعرف نفسك تستطيع أن تواجه سطوة مشاعر الخوف والحزن والغضب التى تفضى إلى سوء التصرف، وبالتالى فإن تحقيق الشعور بالأمن الروحى والسكينة الفلسفية والطمأنينة الوجودية هى المهمة الأساسية للفلسفة».
ولا يختلف التوجه كثيرًا فى كتابه «التداوى بالفلسفة»، الذى يركز فيه أيضًا على دور الفلسفة فى التصالح مع النفس، وأن يكون الشخص هو ذاته وليس ما فرض عليه وأن تكلل جهوده نحو تحقيق السعادة بالنجاح ويتخلص من الأوهام والمعوقات غير الضرورية للعيش.