مصر تذهب للبحر
دون وقوع فى مظنة التشبيه المخل، يمكن القول إن مصر تبدأ مرحلة جديدة «تفرد فيها ظهرها» بعد طول انحناء فى اتجاه الوادى والدلتا، والمقصود بانحناء الظهر هنا هو المعنى الجغرافى وليس المجاز الأدبى، كما نعرف جميعًا فإن مساحة مصر هى مليون كيلو متر مربع فى شكل أقرب للمستطيل، يتوسطها تقريبًا نهر النيل وواديه ودلتاه، كان النيل وما زال هو نبع الخير والخصب وحوله الأراضى السوداء الصالحة للزراعة، وقد استدعى هذا أن تتخذ مصر «ككيان معنوى» الوضع الجنينى الذى يحتضن فيه الجنين نفسه فى بطن الأم، ويجمع أطرافه حتى تستوعبه المساحة الصغيرة داخل الرحم، ولعل هذا ما فعله المصريون حين انكفأوا على الوادى والدلتا، موجهين ظهورهم للسواحل الطويلة على البحرين الأحمر والمتوسط، فالأراضى الخصبة- فى الماضى- كانت وفيرة، وعدد الناس كان قليلًا، وقد استطاع المصريون مع بدء النهضة الحديثة إحداث طفرة زراعية كبيرة باستخدام العلم المتاح وقتها، وأضحت الزراعة مصدرًا لوفرة مالية كبيرة تمتع بها من يملكون الأرض، وحرم منها من لا يملكونها، لكن المشكلة ظهرت منذ السبعينيات تقريبًا، حيث زاد عدد الناس، وقلت مساحة الأرض، ثم تآكلت تحت أعمدة الأسمنت التى أكلت خصبها، ومع ذلك ظلت مصر منكفئة نحو الوادى والدلتا فى الوضع الجنينى ذاته، وكان التوسع العمرانى يتم على حواف الوادى والدلتا بدرجة بسيطة من خلال تعمير الصحراء المجاورة للمدن القديمة، والحقيقة أن الأمر كان يحتاج لثورة تعيد تعديل وضع مصر من الوضع الجنينى الذى تنكفئ فيه على نفسها إلى الوضع الذى تفرد فيه جسدها كله، فتطال أطرافها البحار فى الشمال والشرق والشمال الشرقى، والحقيقة أن ذلك لم يحدث سوى بعد ثورة الثلاثين من يونيو، ومن خلال رؤية تبناها الرئيس السيسى، وتم التعبير عنها من خلال مد حدود المحافظات فى الوادى والدلتا إلى حدود البحر، فلم تعد «قنا» مثلًا هى تلك المساحة المحدودة فى جنوب الوادى، لكن حدودها توسعت لتعبر الصحراء الشرقية حتى تصل للبحر الأحمر ويصير لها شواطئ عليه، وينطبق هذا على غيرها من محافظات الدلتا القريبة من البحر المتوسط، وقد أثبتت الأيام أن الخروج للبحر قد يكون طوق نجاة مصر، ووسيلة قوية للتنمية، والتوظيف، وزيادة الناتج القومى، وكأننا أفرجنا عن كنز ظل مختبئًا لسنوات طوال حتى آن أوان إخراجه واستثمار الجواهر التى يحتويها، ولعل الوقت مناسب الآن أكثر من أى وقت مضى لأن العالم يشهد ثورة سياحية جعلت السفر أسهل وأقل تكلفة، وجعلت خدمات الإنترنت والحجز وما إلى ذلك أمرًا أسهل، وأقل تكلفة للسائح، فضلًا عن تغير عادات السفر لدى شعوب العالم، فحتى السبعينيات كان لفظ «سياح» فى مصر يعنى الأوروبيين الأثرياء الذين يأتون لمشاهدة الآثار فى الأقصر ويشرحها لهم «الترجمان» الصعيدى الذى يجيد عدة لغات ولا يقرأ ولا يكتب باللغة العربية، الآن دخلت عشرات الشعوب فى سوق السياحة المستهدفة نتيجة ارتفاع مستوى المعيشة بها، أولهم الأجيال الجديدة فى الخليج العربى، والصينيون والهنود والكوريون، والروس.. والمصريون العاملون فى الخارج، وعدة ملايين من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى المصرية.. كل هؤلاء وغيرهم أضحوا جمهورًا مستهدفًا للسياحة الشاطئية على شواطئ مصر التى هى فعلًا الأجمل فى العالم بما لا يقارن، والتى تكبدت الدولة نفقات باهظة لربطها بالوادى والدلتا من خلال طرق وقطارات وبنية تحتية، وبالتالى فليس أمامنا سوى تعميرها حتى آخر شبر فيها من خلال مشاريع فندقية تعتمد على الاستثمار الأجنبى المباشر، لا تتورط الدولة فيها فى الإدارة لأن هذه ليست وظيفة الدول.. علينا أن نواصل حتى النهاية، وأن نغتنم الفرصة ولا نخاف ولا نستسلم لمروجى الشائعات، فالفرص التاريخية لا تتوافر سوى قليل، ونحن لا نريد أن نفوت الفرصة مرة أخرى ثم نبكى على الفرص الضائعة.. دعونا نخرج إلى البحر بالسياحة والصناعة والزراعة.. وأظن أننا لن نخسر شيئًا.