عن الشعر والرواية ووحدة الفنون
كانت كل الطرق تؤدى إلى أن أكتب الشعر، فقط لا غير، من حيث النشأة، والاختيارات المبكرة، لكننى لسبب ما قررت ألا يقتصر وجودى الأدبى على كتابة الشعر، فانتقلت إلى الرواية، والأغنية، وشعر العامية، وبعض النقد أحيانًا، بل وربما لا يعرف الكثيرون أننى فى مرحلة ما كنت أجيد الغناء، والتمثيل، بل وقُدت فريقًا مسرحيًا بكلية الهندسة بشبين الكوم، وكتبت وأخرجت لذلك الفريق عرضًا مسرحيًا فى بدايات عام ١٩٨٦، وهى الكلية التى التحقت بها لفترة من حياتى، قبل أن أغادرها استجابة لنداهة الصحافة، والعمل الصحفى، وأغلب الظن أن تلك الفترة كانت بداية رفضى التصنيفات الأدبية المعلبة. فالفنون كلها فى نظرى وحدة واحدة لا تتجزأ، ولا وجود لتلك الفواصل الحاسمة بينها، فالفنان يمكنه أن يكون شاعرًا، أو روائيًا، أو ممثلًا، أو تشكيليًا، أو ما شاء أن يسلك من دروب الفن. وربما كان ذلك هو ما دفعنى فى النهاية إلى الاتجاه إلى الكتابة الروائية، لما فيها من إشباع لكل تلك الدروب، ففى الرواية يمكننى أن أكتب الشعر، وأمارس الرسم، والتمثيل، بل والغناء أيضًا. هنا، فى الكتابة الروائية، كل ما أحب، وما أريد.
بدأت الكتابة على ما أظن منذ سنوات الدراسة الإعدادية، وقتها كنت مفتونًا بشعراء القصيدة العمودية، فقد كنت محظوظًا بالنشأة فى منزل يحتفى بالعلم، وبالقراءة، وكانت لدى والدى مكتبة مدهشة، من أمهات الكتب التى صدرت فى طبعات شعبية رخيصة خلال سنوات الستينيات، خصوصًا سلاسل «كتاب الشعب»، و«كتاب الهلال»، و«كتاب الجمهورية»، وغيرها من الكتب التى كانت المؤسسات الصحفية تتسابق على إصدارها بأسعار رمزية، لا تزيد عن قروش معدودة، وكان أبى يحفظها فى «كراتين» بعيدًا عن عبث الصغار، فاستأثرت بها، بل وخبأتها بعيدًا عن إخوتى، وهى التى فتحت مخيلتى على عالم متسع، وفريد، ومنها كتب «منطق الطير»، و«كتاب الحيوان»، و«ألف ليلة وليلة»، إلى جانب سلاسل الروايات العالمية المترجمة من قبل مؤسسة «دار الهلال»، والتى كانت تطبع وقتها، على ما أذكر، نسخة مصرية من مجلة «ريدر دايجست»، البريطانية الشهيرة، تحت مسمى «المختار»، ووسط كل هذه الثروة المعرفية التى جاءتنى دون أى مجهود منى، كانت دواوين شعراء العربية الكبار، منذ المتنبى وحتى حافظ وشوقى، من بين الكنوز التى أقبلت عليها، يقودنى ذلك الشغف المبكر بالقراءة، والذى حفزه والدى، ودعمه، خصوصًا أنه لعب دورًا كبيرًا فى محبتنا، نحن أولاده جميعًا، للموسيقى والغناء ومحبة القراءة والأدب، وما زلت أذكر جلساتنا حوله فوق سطح دارنا بقرية نادر بالمنوفية، وهو يقودنا فى الغناء، ثم يطلب منا أن نستعرض مواهبنا أمامه، فكان منا مَن يغنى، ومَن يقدم مشاهد تمثيلية، ومَن يقرأ الشعر.. وكنت أنا هذا الأخير.. ورغم بدائية ما كنت أتلو عليهم، بالطبع، إلا أن ما لاقيته من تشجيع كان له أكبر الأثر فى تكوينى الشخصى. بدأت بكتابة القصيدة العمودية، لكنها لم تستمر معى طويلًا، فانتقلت إلى العامية المصرية، وكنت أكتب الأغانى لفريق الكورال الذى أسهم فى تكوينه فى قريتنا الصغيرة والدى ومعه صحبة من رفاقه، وأصدقائه المحبين للآداب والفنون، وكنا نحن أعضاءه، لكننى سرعان ما اكتشفت شعر عبدالصبور، وحجازى، والسياب، ونازك، فأخذتنى روعة الحرية فى التعبير، بعيدًا عن قوالب الشعر العمودى التقليدى، والتى بدأت أشعر أنها قيود تثقل القلب، وتمنعه من الانطلاق فى التعبير عن مكنوناته، وكان ذلك من خلال مكتبة المدرسة، بالمرحلة الثانوية، فانتقلت إلى كتابة قصيدة التفعيلة، التى أخذت معى مرحلة طويلة.
وقتها كان شعراء السبعينيات يملؤون الهواء ضجيجًا حول تثوير اللغة، وتفجيرها، وحقول الدلالة، ويكتبون كلامًا أشبه بالشعر، وأشبه بالنثر، وأشبه بشفرات المتصوفة، وما هو بالشعر، ولا بالنثر، ولا صلة له بالتصوف. ولم أستسغ تنظيراتهم، ولا قصائدهم، فكان ملاذى فى تلك المرحلة فى شعر درويش، وأمل دنقل، ونجيب سرور، إلى أن عاد الكاهن الأكبر محمد عفيفى مطر من العراق، وبدأت التعرف على شعره، بينما بدأت اكتشاف جمال ما يكتبه الراحل الجميل حلمى سالم، ورفاقه، رفعت سلام، وعبدالمنعم رمضان، وأمجد ريان، ورغم ضلوعهم جميعًا فى تنظيرات «تثوير وتفجير اللغة»، وأفكار الحداثة وما بعدها، وهى الأفكار التى أظن أنها لعبت أدوارًا كبيرة فى هجرة الجمهور للشعر والشعراء، وتزايد الفجوة بينهما، فكان الشعراء وكأنهم يكتبون لأنفسهم، أو للترجمة، أو للبحث عن سطور فى كتب تاريخ الأدب.. فيما يولون ظهورهم للحاضر الماثل قدامهم فى قاعات الجامعات، والندوات التى هجرها روادها، وتحولوا عنها بحثًا عمن يمكن أن يكون صوتهم.
ربما ترى فى هذه الرحلة مسيرة شاعر، لا غير، لكننى أذكر أننى فى مرة كنت أسير مع الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد فى ضواحى مدينة شبين الكوم، خلال زيارة له إليها، أثناء عمله بالهيئة العامة لقصور الثقافة، فى نهايات التسعينيات، وتحدثنا عن مفارقة الشاعر الذى يدمن قراءة الروايات، والذى كنته أنا، والروائى المدمن لقراءة الشعر، أو الذى يجد متعته الكبرى فى قراءة الشعر، وكان هو ذلك بالطبع. كانت قراءة الروايات المترجمة، وما زالت، شغفى الأول، ومتعتى الكبرى. وكان نجيب محفوظ بالطبع فى مقدمة صفوف من تستهوينى كتاباته، وما زلت أذكر تلك الليالى التى عشت فيها أجواء ثلاثيته الرائعة منفردًا بذاتى، أو تلك الليلة التى قرأت فيها رائعة «الجريمة والعقاب» للروسى الأشهر دوستويفسكى، والتى لم أستطع خلالها مغادرة الكتاب طوال أربع وعشرين ساعة من القراءة المتواصلة، لا تفصلها إلا دقائق لتناول الوجبات بعد إلحاح من أمى التى لم تكن تعرف ماذا أفعل منفردًا فى حجرتى، وخرجت منها مصابًا بذات الحمى التى تلبست «راسكولينكوف»، بطل الرواية طوال فصولها الممتدة. وأظن أننى ما زلت مفتونًا بهذه الرواية، ومدينًا لها بالكثير.