كيف أضاءت «لمبة الجاز والرتينة» عقول علماء ومبدعى مصر؟
لمبة الجاز أو الكيروسين تم اختراعها في أوائل القرن التاسع عشر، ابتكار غيّر مجرى التاريخ في عالم الإضاءة، بدأت رحلتها في إضفاء النور على المدن الأوروبية والأمريكية، ثم عبرت مياه البحار الواسعة لتصل إلى أرض الشرق الأوسط وتستقر في مصر، مضيفة بُعدًا جديدًا للحياة بعد غروب الشمس.
بفضل ضوء لمبة الجاز الجديد، شهدت حياة العلماء والمفكرين والأدباء في مصر تحولًا جذريًا، قبل أن تنير الكهرباء أرجاء الريف وقرى الصعيد، كانت الشمس هي المصدر الوحيد للضوء، محددةً بذلك ساعات النشاط اليومي، لكن مع ظهور لمبة الجاز، وجد هؤلاء المبدعون ملاذًا يمكنهم من خلاله مواصلة أعمالهم الفكرية والعلمية حتى بعد حلول الظلام، أصبح بإمكانهم الغوص في أعماق التأمل، والكتابة، والبحث لساعات مطولة، مستفيدين من الضوء الذي مدّ لهم يومهم ومنحهم فرصة أكبر للقراءة والتأليف.
مع تقدم عصر الإضاءة، ظهر مصباح "الكلوب" كابتكار راقٍ، حيث كان يحتضن بداخله الرتينة المصنعة من خيوط الحرير الطبيعي الناعمة، داخل هذا المصباح الأنيق، الذي يعمل بالكيروسين كمصدر للطاقة، كانت الرتينة تُوقد لتعزز سرعة انتشار ضوئه ولمعانه، ما أكسب الضوء طابعًا مميزًا وأضاف جمالية خاصة للأماكن التي ينيرها.
في قرى الريف المصري وأنحاء الصعيد، كانت لمبة الجاز، المعروفة بـ"أم فتيل" أو "البنورة" رقم "5" أو "10"، رفيقة السكان من الفئات الفقيرة أو المتوسطة، بينما ارتبط مصباح الكلوب، أو كما يُعرف بـ"المصباح أبو رتينة"، بالترف والمكانة الرفيعة، حيث كان يُستعمل أساسًا من قِبل الأثرياء في المجتمع مثل عمد القرى، زعماء القبائل، ورجال الأعمال، والتجار، وغيرهم من الطبقات الغنية كانت هذه المصابيح تعكس مكانة أصحابها الاجتماعية.
ومع بزوغ عصر لمبة الغاز وظهور الرتينة في مصر، شهدت البلاد موجة نهضة علمية ملحوظة، استغل العلماء المصريون هذه الابتكارات النورانية لتعزيز مسارات بحوثهم وتوسيع آفاق تجاربهم العلمية، الإضاءة المحسنة، التي جلبتها هذه التقنيات، كانت بمثابة نعمة للعلماء، مانحةً إياهم القدرة على مواصلة العمل والبحث حتى في سكون الليل.
وضمن الكوكبة العلمية التي ازدهرت في ظلال هذه التحولات النورانية، كان هناك العديد من الشخصيات اللامعة التي تركت بصمات خالدة في ميادين العلم والمعرفة، بعض هؤلاء العلماء ما زالوا يواصلون مسيرتهم العلمية إلى اليوم، مستفيدين من إرث الإضاءة التي سهلت مسيرتهم، بينما آخرون قد ودعوا عالمنا، تاركين خلفهم إرثًا علميًا ثريًا تستفيد منه الأجيال اللاحقة.
عاصر هذه التكنولوجيا الحديثة لعصرها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، حيث عُرف «الخال» بأشعاره التي تناولت الحياة الشعبية والقضايا الاجتماعية بلغة شعبية مؤثرة، تحت ضوء لمبة الغاز، كان ينسج قصائده التي تعبر عن آمال وآلام الناس البسطاء، مضيئًا بكلماته دروب الأجيال القادمة.
كما استخدم أمل دنقل، بقصائده الثورية والنقدية، الشعر كوسيلة لمقاومة الظلم والتعبير عن القضايا الوطنية والسياسية، في ضوء لمبات الغاز المعلقة في زوايا الحجرات الصغيرة، كان يرسم بكلماته لوحات من الثورة والأمل.
وكذلك صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الذي ارتفع في سماء الصعيد وتجاوز حدود مصر، كان مصدر إلهام وروحانية للمسلمين حول العالم، كانت قراءاته القرآنية تُبث تحت ضوء لمبات الغاز في المساجد والبيوت، مضفيةً على الأمسيات الهدوء والسكينة.
استخدم الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، ضوء لمبة الجاز أو "الكلوب أبو رتينة" في تعميق دراساته وأبحاثه في الفقه والدين، ما أسهم في دعم الحوار الديني والثقافي، حيث نجح في إيجاد التوازن بين الحفاظ على التقاليد والانفتاح على التجديد، مستلهمًا من ضوء العلم والمعرفة.
الشيخ مصطفى المراغي، أيضًا عاصر اللمبة الجاز وبجهوده الإصلاحية في الأزهر، سعى لتجديد الفكر الديني وتوسيع آفاق التعليم، في عصر بدأت فيه مصر تنهل من معين العلم والتكنولوجيا، كان يحاول إضاءة الطريق للأجيال الجديدة.
الشيخ محمد صديق المنشاوي، الذي نشأ في أحضان مركز المنشاة بسوهاج، يُعدّ إحدى القامات البارزة في عالم تلاوة القرآن الكريم، حيث استطاع بصوته العذب وأسلوبه المميز في الترتيل أن يحجز لنفسه مكانًا بين أشهر قرّاء القرآن على مستوى العالم، شهدت مسيرته الروحية لحظات مضيئة بفضل لمبة الجاز التي أضاءت دروبه نحو الروحانيات، وقد ساهمت تلاواته المسجلة في إذاعات عربية وإسلامية مختلفة في نشر النور والإيمان في قلوب المستمعين حول العالم.
وفي ذات السياق النوراني، سلك الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الأسبق وابن مركز طما بسوهاج، طريق العلم والتفسير، حيث أنارت له لمبة الجاز مسار البحث العلمي والتدقيق في علوم التفسير والحديث، وأثرى المكتبة الإسلامية بأعمال قيمة لا تزال تُعتبر مرجعًا هامًا للعلماء والباحثين، مواصلًا بذلك إضاءة الطريق للأجيال القادمة بعلمه وفكره.
وتحت ضياء لمبة الجاز الهادئ، تفتّقت عبقرية الأديب جمال الغيطاني، حيث خُطت روائعه بين ظلال الأحرف والكلمات، وفي نفس النور المتوهج، أضاء الفنان جورج سيدهم مسرح الحياة بضحكاته، بينما رسم الفنان حمدي أحمد بأدائه الرصين لوحات فنية خالدة، وتحت هذا الوميض الخافت، نسج الموسيقار بليغ حمدي ألحانه الخالدة، وأطلق المطرب محمد منير صوته النوبي الأصيل، وكان أيضًا من بين الذين عايشوا عصر لمبة الجاز، استطاع من خلال فنه أن يضيء على تراث وثقافة المنطقة النوبية، مضيفًا إلى المشهد الفني تنوعًا وغنىً فريدًا.
في هذا الضوء الشاحب، وجد سامح عاشور، نقيب المحامين السابق، وضياء رشوان، نقيب الصحفيين السابق، ملاذًا للتأمل في قضايا العدل والحقيقة، وبين هذه الأضواء، رسم نجيب وسميح ساويرس، رجلا الأعمال المعروفان، خططهما لمستقبل مزدهر.
وفي زوايا مضاءة بنور الجاز، نظم الشاعر الكبير جمال بخيت قصائده العميقة، ومعه الشاعر محمد العسيري الذي رسم بكلماته لوحات شعرية مبدعة، ولم يكن محمد خراجه، عضو مجلس نقابة الصحفيين الحالي، والإذاعي الكبير فهمي عمر بعيدين عن هذا النور، فقد أضاءت لمبة الجاز لهما الطريق نحو ترك إرث ثقافي وإعلامي راسخ.
وبجانبهم، الآلاف من المفكرين والمبدعين الذين استلهموا من ضوء لمبة الجاز شعلة إلهام تجاوزت بهم عتبات التاريخ، تحت ضياء هذه اللمبات، ونُسجت أرواح وأفكار هذه القامات العظيمة، مُضيئة مسالك الفن والأدب والعلم والثقافة عبر ربوع مصر، وخلفت وراءها إرثًا ثريًا يستمد منه الإلهام لأجيال المستقبل.