مداخلة فى موضوع مهم
لدىّ مداخلة فى قضية نشرت أخبارها أقسام الحوادث المختلفة مؤخرًا.. لفتت نظرى أخبار بعناوين تقول «القبض على سوزى الأردنية بتهمة تهديد قيم الأسرة» أو «اتهام سوزى الأردنية باستغلال شقيقتها من ذوى الهمم للكسب المادى».. إلخ. حاولت أن أتقصى حقيقة الأمر فاكتشفت أن الفتاة شهيرة جدًا، بسبب تعبير خارج صدر منها وتحول إلى «ترند» على فيسبوك.. لكن لفت نظرى عدة أمور أخرى أحببت أن ألفت النظر إليها.. أول هذه الأمور هو صغر سن الفتاة التى قالت الصحف إن عمرها ثمانية عشر عامًا، وهو ما يضعها فى الإطار العمرى للأحداث الجانحين، وليس للكبار البالغين الذين يحق عليهم الحساب بالسجن على ما ارتكبوه من جرائم.. وكان ثانى ما لفت نظرى أن جريمة الفتاة لا تشبه جرائم فتيات شهيرات، كانت جرائمهن تتصل بالاتجار بالبشر، والنشاط المنظم من أجل الكسب المادى ما كان يثير الامتعاض ويستحق التوقف عنه بالفعل، وهو ما لا ينطبق على حالة هذه الفتاة «الجانحة» وليس «المجرمة».. كان مما لفت نظرى أيضًا أن هذه الفتاة تشكو من ظاهرة تعانى منها ملايين الفتيات المصريات الفقيرات عبر أجيال، وهى استغلال رب الأسرة لطاقة عمل الأبناء والفتيات سواء من خلال توظيفهن فى البيوت كعاملات منازل، أو فى الورش الحرفية، أيام كان لدينا ورش حرفية، أو كسائقى توك توك، كما ينتشر كثيرًا هذه الأيام.. ولعل هذا السلوك مرتبط بعدم التعليم بين فئات واسعة، لم تنل حظها من التنمية، وبنظرة ثقافية تتعامل مع الأبناء كجزء من أملاك الأب وأدواته لكسب الرزق. وقد ناقشت بعض أعمالنا الفنية قضية استغلال الأهل الفتيات لجمع المال فى أعمال مهمة مثل: «أحلام هند وكاميليا» و«سجن النسا» وغيرهما من الأعمال.. وبالتالى فنحن أمام فتاة تطرح قضية عادلة بطريقة خاطئة تخلو من التهذيب، وهو ما يستحق لفت نظرها وتحويلها لوزارة التضامن والشئون الاجتماعية لتقويم سلوكها وتغيير مفهومها للعلاقة بالأب ولطريقة التعبير عن الغضب، وأظن أن الوزارة يجب عليها أيضًا تعيين إخصائى اجتماعى لنصح الأب وإرشاده لإدارة علاقته بابنته وتخليصها من الشعور بأن والدها يستغلها ماديًا ويستولى على مدخراتها كما اتهمته فى الفيديو الشهير الذى تمت إحالتها للتحقيق بسببه.. ما لفت نظرى أيضًا أن هذه الفتاة لديها مهارات إعلامية موظفة بأسلوب خاطئ.. ولكن هذا لا ينفى أنها تمتلكها فهى فتاة فقيرة غير متعلمة ولكنها استطاعت أن تصبح حديث الرأى العام بشكل أو بآخر.. والمعنى أنها تمتلك «المهارات» وتحتاج لمن يعلمها «القيم»، والمعنى الآخر أنه لا يمكن الحكم عليها ومقارنتها بغيرها إلا إذا أتيحت لها نفس الفرص فى التعليم التى أتيحت للأخريات.. وأظن أن هذه الفتاة لو أتيحت لها دراسة الإعلام لمدة سنوات متواصلة فستكون إعلامية جيدة للغاية لأنها لن تكون وقتها بنفس الشخصية التى هى عليها الآن.. لقد حرمت هذه الفتاة من فرصة فى فرقة المسرح المدرسى، وغير ذلك من الوسائل التقليدية التى كانت الأجيال الأقدم تعبر من خلالها عن مواهبها، فكان من الطبيعى أن تظهر عبر التليفون على وسائل التواصل الاجتماعى دون تعليم ودون تهذيب ودون نصح ودون إرشاد، فتكون النتيجة كما رأينا جميعًا، ومع ذلك فهى من وجهة نظرى ضحية وليست مجرمة.. فى هذا الإطار يبدو من المهم أن تهتم مؤسسات الضبط فى المجتمع بقيم مثل «التفاهم» و«التراحم» و«التسامح»، كما تهتم بقيم مثل «العقاب»، و«البتر» و«تطبيق القانون» بحذافيره.. فعندما تقوم مؤسسات الضبط بتقويم حالة جانحة تكون قد قامت بدورها على أكمل وجه، تمامًا كما تكون قد قامت بدورها إذا عاقبت مجرمًا يحترف الجريمة ويتعمد الإجرام.. ما أود أن أقوله إن القضية لا تتعلق بهذه الفتاة بعينها بقدر ما تتعلق بنظرة المجتمع للموهوبين أو ذوى المهارات، حتى لو بدا أن ما يقدمونه خارج السياق.. لقد انتشرت التليفونات الذكية وأصبحت فى يد الملايين، ومن هؤلاء الملايين يوجد مئات آلاف من الطبقات التى لم تنل حظها فى التنمية، وبالتالى فإن طريقة خطابهم ومشاكلهم وعلاقاتهم ستبدو لنا خارج السياق، وستنشر عن طريق وسائل التواصل، ولا أظن أننا سنستطيع أن نمنعهم من استخدامها، ولا أننا سنستطيع عقابهم جميعًا بتهمة مخالفة قيم لم يعلمهم أحد إياها، لأنهم- كما اتفقنا- حرموا من نصيبهم فى التنمية لأسباب مختلفة.. وبالتالى فالحل أن نحيل من لم تثبت علاقته بالجريمة المنظمة منهم لمؤسسات التضامن الاجتماعى، وأن نساعد ذوى المهارات منهم على أن يتعلموا ويصقلوا مهاراتهم، ليكونوا رصيدًا لنا وليس علينا.. وأن يشعروا بالامتنان لمن أتاح لهم فرصة التعلم بدلًا من الكراهية والحقد على من زج بهم فى السجن دون ذنب جنوه- من وجهة نظرهم-.. كانت هذه زاوية أخرى للتفكير أرجو أن تكون مفيدة فى موضوع هذه الفتاة وفى مواضيع مشابهة بإذن الله.