الهروب إلى دفاتر القلعة
عشت أكثر من عشرين سنة كاملة لا أعرف عن القلعة سوى أنها المكان الذى تخلص فيه محمد على من المماليك الذين كانوا ينازعونه الحكم.
ولأننى كنت أعيش تلك الأيام فى ريف الصعيد تصورت أنها سجن كبير.. لم تندهنى كتابات مؤلفى الكتب الدراسية إليها.. وكان المكتوب عنها فى الأصل قليلًا جدًا.. لكن صورتها المتداولة فى بعض برامج التليفزيون كانت تشى بأن بها أسرارًا أكبر من سيرة صلاح الدين ورفاقه.. صلاح الدين نفسه لم أقترب من ظلال سيرته سوى من فيلم يوسف شاهين.
القاهرة.. بكل تفاصيلها.. لم تكن سوى حلم كبير.. أقرب ما فيها للجنوبيين أمثالنا كان الأزهر والحسين.. أهلنا وقد كانوا يأتونها لزيارة قريب مريض أو عيادة طبيب مشهور، كانوا يحرصون على زيارة السيدة والحسين ويعودون ليحكوا عن زيارتهم بكل ما فيها حتى لو كان أكلة طعمية سخنة.. لكنهم عندما يتوقفون عند زيارة الحسين والسيدة تغرورق أعينهم بحب لم أكن أفهمه وخشوع نادر له سطوة غريبة وبخاصة عند نساء قريتنا.
لم يذكر أحدهم سيرة القلعة أبدًا.
وعندما قررت الإقامة بشكل دائم هنا.. لم تكن هذه المنطقة، بتاريخها وناسها، لا تعنى لى أى شىء مختلف.. وعندما بدأت حفلات محكى القلعة زرتها.. سحرتنى البنايات نعم.. لكنها مجرد لحظات.. لحظات عابرة لا أتوقف عندها.. ومنذ سنوات قليلة كلما مررت بجوارها فى طريقى للمقطم لزيارة صديق أجد أعمالًا تجرى على قدم وساق.. أفرح بها.. العمران عادة يأخذنى إلى الغد.. إلى حلم جديد.. المنطقة ساحرة بالفعل وتطويرها أمر كان واجب الحدوث من سنوات بعيدة.. المهم أنه يحدث.. هو عملية بحث ضرورية عن المستقبل.
الغريب أنه فى نفس الوقت الذى تجرى فيه هذه الأعمال التى تبحث عن حياة أخرى للقلعة.. أجدنى مضطرًا لاستقبال عشرات التليفونات من أصدقاء وأقرباء فى الصعيد عن طريقة دخول القلعة.. اندهشت عند زيادتها.. وتكرارها بشكل مباغت.. السائلون لا يرغبون فى زيارة معرفية أو سياحية.. كلهم يسألون عن ذلك المكان الذى تستقر فيه سجلات العائلات القديمة وحجج أطيانها.. يسألون بشكل مريب عن شجر عائلاتهم.. يسألون عن الطريق والطريقة والتكلفة.. باغتتنى فى نفس الوقت عشرات المنتديات التى جرى تأسيسها فى وقت قريب لخدمة نفس الهدف.. الشعور القبلى عند الأجيال الجديدة يتنامى بشكل مستفز.. لا أعرف ما السبب فى ذلك؟.. لماذا هذه اللهفة فى البحث عن أصل وجذور وانتماءات كنا قد تناسيناها مع طفرة كبيرة فى التعليم؟.. أزيدكم من الشعر بيتًا.. كثيرون يبحثون عن كتب السيرة الهلالية وشرائط الكاسيت التى سجلها رواتها منذ ما يزيد على خمسين سنة.. وأتمنى لو أن أحدهم رصد مبيعات الكتب التى تتحدث فى تاريخ قديم أو عن السلف فى المعرض الذى انتهى مؤخرًا.
الأمر ليس تعبيرًا فقط عن حالة فراغ يعيشها أهلنا فى الريف والصعيد هذه الأيام.. لكنه خوف غريب من قادم لا نعرفه.. يستدعى الاستعداد والاحتماء فى ظل تكوينات قبلية كنا قد غادرناها مع هجرات الخليج وليبيا والعراق والانشغال بالبناء والتجديد فى بيوتنا القديمة وصراع الصعود الاجتماعى.
حالة الصعيد والريف المصرى وتأثيرات التحولات الإقليمية والاقتصادية فى السنوات الأخيرة تحتاج إلى عقل علمى واعٍ لرصدها والتعامل معها بسرعة، هذا ما أظنه.. فلا شىء يحدث صدفة.