مصر التى لا نعرفها
على شبكة «نتفليكس» الشهيرة شاهدت فيلمًا وثائقيًا عن الإسكندر الأكبر.. ما دفعنى للتوقف عند الفيلم أن الإسكندر الأكبر لم يكن بطل الفيلم الحقيقى.. لكن مصر كانت هى بطل الفيلم ومحور الأحداث.. بغض النظر عن أن «نتفليكس» أضفت لمساتها المعروفة على الفيلم لتصبغه بصبغتها، إلا أنه يبقى فيلمًا توثيقيًا مهمًا للغاية.. يروى الفيلم قصة الصراع بين القائد المقدونى الشاب وإمبراطور فارس «داريوس الثالث»، كان داريوس هو الأقوى وصاحب الغلبة العسكرية، وكان يبسط نفوذه عبر آسيا الصغرى على بعض مدن اليونان.. قدم الإسكندر نفسه لشعبه على أنه داعية للتحرر الوطنى، وأيقظ الروح الوطنية لدى اليونانيين القدامى، الذين كان بعضهم يسلم بسيطرة إمبراطور فارس ويقاتل لحسابه.. فى المعركة الفاصلة بين المعسكرين نفذ الإسكندر خطة انتحارية سجلت باسمه فى التاريخ حتى الآن.. قرر الإسكندر أن يقود مجموعة من الفرسان ويخترق صفوف الفرس؛ حتى يصل لخيمة الإمبراطور فيقتله ويُنهى الحرب بالضربة القاضية.. نجحت خطة القائد المقدونى فعلًا، ولكن أركان الجيش الفارسى أخلوا الإمبراطور بالقوة، لأن موته يعنى هزيمة الجيش.. خلف إمبراطور الفرس زوجته وابنته ليقعا أسيرين فى يد الإسكندر، ويدور فصل آخر من دراما الحب والكراهية فى تاريخ البشرية.. كان الطريق مفتوحًا أمام الإسكندر نحو فارس أو بابل القديمة، لكنه يقرر أن يتركها ويذهب إلى مصر.. كانت مصر وقتها قد وقعت تحت الاحتلال الفارسى الآسيوى قبل مئتى عام على يد الملك قمبيز.. يقول الإسكندر لقواده إن مصر هى سر قوة إمبراطورية فارس، وإنه إذا فقدت فارس مصر تصبح بلا ثروة ولا قوة.. من سياق الأحداث نفهم أن الفرس كانوا يصفون أهل اليونان وقتها بأنهم برابرة بلا حضارة.. وأن ذهاب الإسكندر لمصر كان هدفه أن يحكم شعبًا ذا حضارة عريقة مثل الشعب المصرى.. يذهب الإسكندر إلى مصر بالفعل ليقنع أهلها بأنه جاء كى يكون مصريًا يعرف قيمة مصر.. يعتنق ديانة المصريين القدماء ويتوج حاكمًا شرعيًا ويذهب فى رحلة طويلة لزيارة معبد آمون فى واحة سيوة، ونعرف من الأحداث أنه واجه خطر الموت فى الصحراء الغربية، لكنه صمم أن يتم رحلته لسيوة.. فى عشرات من مشاهد الفيلم تتردد جمل مثل أن مصر هى أرض الثروة وأرض الحضارة، وأن من يحكمها يحكم العالم.. بعد أن يُقنع الإسكندر المصريين بحكمه، وبعد أن يتزود بثروات مصر يتجه تجاه فارس ليقضى على غريمه داريوس الثالث للأبد، ويتوج زوج ابنته إمبراطورًا بدلًا منه.. لا أنكر أننى شعرت بالفخر وأنا أشاهد هذا الفيلم ومشاهده التى تدور فى مصر والصراع بين أقوى قوتين فى العالم على السيطرة على مصر.. ثم تفاصيل بناء مدينة الإسكندرية عروس البحر وعاصمة العالم لقرون تالية لموت الإسكندر ووراثة قائده بطليموس حكم مصر كفرعون مصرى لا كحاكم أجنبى أو محتل.. لقد شعرت بأن هناك من أخفى عنا تاريخ مصر الحقيقى؛ كى يتوقف المصريون عن الحلم باستعادة مكانتهم القديمة.. إن هذا الفيلم يقول إنه حتى بعد نهاية عصر الأسرات المصرية الثلاثين التى حكمت مصر.. ظلت مصر مهمة، وظلت «رمانة ميزان العالم».. لكن مصر واجهت فيما بعد غزوًا ثقافيًا جاهلًا أخفى عن المصريين تاريخهم الحقيقى.. هناك من ضلل المصريين وأخبرهم بأن تاريخهم مرتبط بالصحراء والبداوة والفقر الفكرى والروحى والثقافى والحضارى.. تاريخ مصر الحقيقى ومجدها مرتبط بالبحر الأبيض المتوسط لا بالبحر الأحمر المالح.. هذه هى الحقيقة التى سنظل فاقدين لذاتنا الحضارية طالما نتجاهلها.