رأس الحكمة عدم خيانة الوطن
فى الأربعينيات كان أساتذة الصحافة ينصحون أن يبدأ الصحفى حياته محررًا للحوادث.. كانت وجهة نظرهم أنه فى عالم الجريمة يمكن أن يتعرف على قاع المجتمع، ويعرف الوجه القبيح للحياة.. لم يعد الصحفى الآن فى حاجة لأن يعمل محررًا للحوادث كى يواجه قاع المجتمع.. يكفيه أن يأخذ جولة على حسابات الهاربين على موقع التغريدات «إكس».. جولة واحدة يوميًا تتعرف منها على موبقات يتحلى بها هؤلاء وكأنها تيجان قذرة على رءوس فارغة.. الكذب، والتضليل، وقلب الحقائق.. أكثر الصفات تكررًا فى حسابات هؤلاء.. هذا إذا تغاضينا أساسًا عن الذنب الأكبر وهو العمالة لدول أجنبية.. إذ ليس بعد الكفر ذنب.. التجسيد الأخير لكل هذه الموبقات كان فى المعالجة الموحدة التى نشرها هؤلاء لخبر بدء الاستثمارات السياحية فى مدينة رأس الحكمة.. وكان النص الموحد الذى تم توزيعه أن مصر باعت مدينة رأس الحكمة لدولة أجنبية!! وأن سعر ٢٢ مليار دولار كحق انتفاع بشاطئ رأس الحكمة هو سعر غير عادل.. لا يحتاج الإنسان أن يكون متخصصًا ليعرف كذب ما تقوله الحسابات المشبوهة فى وقت واحد وبصيغة واحدة!، ولا يحتاج الصحفى أن يتصل بمصدر رسمى كى يعرف أن هذا السعر أكثر من عادل وأن هذه الأكاذيب أكثر من مضللة، يكفى أن تكون من الذين عاشوا فى مصر خلال الثلاثين عامًا الماضية، أو فى أى مكان فى العالم لتعرف مدى كذب هذه الادعاءات.. فالكثير من دول العالم، من بينها مصر، كان يمنح الأراضى الشاطئية مجانًا للمستثمرين حتى يشجعهم على إقامة مشروعات سياحية فيها.. وقد تم تطبيق هذه السياسة بتوسع فى شواطئ مدينة الغردقة فى الثمانينيات والتسعينيات، وأذكر أن الصحف هاجمت وزير السياحة د. سلطان أبوعلى لأنه منح أراضى سهل حشيش بدولار واحد للمتر للمستثمر، وكانت وجهة نظره أن الاقتصاد سيستفيد من بناء القرى السياحية واجتذاب السائحين والضرائب.. إلخ، وبغض النظر عن مدى صواب هذا من عدمه.. فإن مقارنة بيع المتر بدولار.. ببيع شاطئ واحد بـ٢٢ مليار دولار يوضح لنا الكثير والكثير، وبالتالى فالسعر أكثر من عادل إذا قمنا بالمقارنة بالماضى وكما تدل مؤشرات الصفقة، أما الادعاء بأن هذه «مدينة» يتم بيعها لـ«بلد أجنبى» فهذا كذب واضح.. إن ما سيتم بناؤه هو مشاريع سكنية وسياحية على أرض مصر، ستخضع لقانون مصر، ويضبط الأمن فيها شرطة مصر، ويراقب الشواطئ فيها حرس حدود مصر، وتحصل الضرائب من أنشطتها مصلحة ضرائب مصر، ويعمل فيها موظفون وعمال من مصر، ينطبق هذا على مشروع رأس الحكمة وعلى غيره.. فلا يوجد مستثمر أجنبى فى العالم يمكن أن يعمل دون رضا الشعب الذى يحيط بمشروعه والدولة التى يستثمر فيها وفق قوانينها وضوابطها، وأذكر أن الغضب الشعبى فى أواخر التسعينيات أجبر سلسلة محلات شهيرة على إغلاق فروعها فى مصر، بعد أن شك الناس فى جنسية أصحابها، وبغض النظر عن أن ذلك كان خطأً أو صوابًا، فهو مثال على أنه لا يوجد مستثمر فى العالم يمكن أن يعمل دون ترحيب شعبى ورسمى يتجدد كلما التزم هذا المستثمر بالقانون ومصلحة البلد الذى يعمل فيه، ويتبدد إذا لم يلتزم، وهذا فى حالتنا أمر صعب جدًا جدًا حدوثه، وبشكل عام أيضًا فإن دول الخليج العربى الثلاث الأكثر ثروة ستصبح أكبر مستثمر عالمى لعدة سنوات مقبلة بسبب الطفرة فى أسعار النفط، وبسبب رغبتها فى الاستثمار الخارجى بعيدًا عن بنوك الولايات المتحدة وإنجلترا كحلفاء تقليديين لهذه الدول منذ عقود مضت، وبالتالى فهم يبحثون عن فرص واعدة، ودولة قادرة على فرض الأمن، وسوق واسعة قوامها عشرات الملايين، وموقع مثالى لا يتوافر سوى فى مصر، ونحن فى هذه المرحلة نحتاج إلى استثمارات مباشرة بالعملة الصعبة، لذلك فنحن نرحب بمثل هذه الصيغ الاستثمارية، ونتوقع تكرارها، بالتالى يصبح من الخبل القول إن هذا شراء لمصر.. خاصة إذا تنوعت الشركات المستثمرة وجنسيات المساهمين سواء فى مشروع رأس الحكمة نفسه، أو فى مشاريع أخرى قادمة فى هذا الشاطئ الفيروزى أو فى غيره من أنحاء مصر، ولو كان أصحاب الحسابات المشبوهة ممن يعارضون لوجه الوطن ولوجه الإصلاح لا لوجه الدول التى يعملون لصالحها لأثنوا على هذا التوجه الجديد، الذى أعفت فيه الدولة نفسها من عبء الاستثمار المباشر، وحصلت على مقابل عادل لحق انتفاع المستثمرين بشاطئ رأس الحكمة، ومنحت الفرصة لرأس المال الخاص المصرى والعربى ليعمل ويدفع الضرائب ويوظف العمال.. وهو توجه محترم طالب به الكثيرون كعلامة لمرحلة جديدة من الأداء الاقتصادى يتوقع الكثيرون منها الخير.. لكن أصحاب الحسابات المشبوهة لا يريدون لنا الخير، لذلك لن يشيدوا بهذه الخطوة، ولا بغيرها.. عادتهم ولن يشتروها!