اثنان وليس واحدًا!
أنا وأنت والجميع غاضبون جدًا من ارتفاع الأسعار الجنونى، ومن موجات التضخم، ومن حالة الاقتصاد، هذا حقنا الطبيعى، هذا الغضب والسخط لا يعنى أننا لا نحب بلدنا أو نتخلى عنه.. نحن نطالب بمحاسبة المسئول وهذا طبيعى، وبتغيير السياسات وهذا منطقى، لكن ونحن نفعل كل هذا علينا أولًا أن نحذر، وعلينا ثانيًا أن نفهم.. من ماذا نحذر؟ علينا أن نحذر من محاولات أذناب الإخوان الصيد فى الماء العكر.. التشفى الرخيص فى البلد، تصفية الحسابات الوضيعة تحت ستار الخوف على الناس من الغلاء والبلاء، التشكيك فى كل شىء وأى شىء، التقليل من كل ما تم بناؤه، رغم أن العيب- من وجهة نظر كثير من المخلصين- فى إدارة البناء وليس فى البناء نفسه، وبالتالى فإن الإخوان والهاربين والمقيمين فى الفنادق الفاخرة فى أوروبا وآسيا ليسوا طرفًا مع هذا الشعب فى الأزمة، وبالتأكيد ليسوا جزءًا من الحل، علينا إذن أن نحذر من الإخوان، وعلينا أيضًا أن نفهم سبب الأزمة الخارجى أولًا، والداخلى ثانيًا، وعلينا أن نعترف بأن أى محاولة لإنكار العامل الخارجى فى الأزمة هى نوع من العمى، وأى محاولة لإنكار العامل الداخلى هى نوع من التبرير غير المقبول، العامل الخارجى ليس وليد هذا العام أو الذى سبقه أو الذى سبقه، ولكنه وليد تغير النظرة الأمريكية للمنطقة العربية منذ أحداث سبتمبر ٢٠١١، ونمو تيارات يمينية متطرفة وحشية داخل الإدارة الأمريكية، وتغيير القرار الأمريكى فيما يخص الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية، والذى يمكن تلخيصه وقتها فى الاعتراف بالدول الوطنية العربية التى ورثت الاستعمار التقليدى، والتى كان قوامها الجيوش العربية التى وصلت للحكم عقب التحرر الوطنى، نتج عن تغير النظرة الأمريكية النابعة من نهم متزايد للنفط العربى مجموعة من الاعتداءات الوحشية على الشعوب العربية، كان أولها غزو العراق ٢٠٠٣، ثم غزو ليبيا فى ٢٠١١ واغتيال حاكمها بطائرات الناتو تحت دعوى مناصرة ثورة الشعب الليبى، ثم إشعال حرب أهلية فى سوريا وتمويل تنظيمات القاعدة والإخوان بمليارات الدولارات من دول عربية ليست سوى واجهات مالية ومقار لوجستية للاستعمار الجديد فى أمريكا، ثم تم إسقاط نظام الحكم فى السودان فى ٢٠١٩ عقب فترة اضطرابات جماهيرية بسبب ارتفاع الأسعار، والتضخم، وقلة الغذاء، ونتج عن ذلك الإطاحة بنظام حكم كان، رغم أى تحفظ، يحفظ دماء السودانيين، ووحدة السودان، وهو ما لم يعد ممكنًا الحفاظ عليه بعد رحيله.. كنت أقرأ عن الأوضاع فى هذا البلد الشقيق وسألت نفسى: لماذا ظلت الأوضاع الاقتصادية مستقرة هناك طوال ثلاثين عامًا ثم تهاوت فجأة قبل شهور من إسقاط النظام.. كنت أسأل: أى منهما أدى للآخر؟.. هل تردى الوضع الاقتصادى أدى لإسقاط النظام؟ أم أن من أرادوا إسقاط النظام خلقوا المتاعب الاقتصادية؟ وهل اختفت المتاعب بعد إسقاط النظام أم تحولت إلى مأساة ومذبحة ومجاعة؟.. أيًا كان الأمر فقد نتجت عن هذه التدخلات المباشرة لإسقاط الدول الوطنية إحاطة مصر بحزام من النيران والإرهاب والفوضى والاقتتال الداخلى، ولم يكن ذلك صدفة ولا خبط عشواء، لأن مصر نفسها كانت نقطة انطلاق هذا السيناريو لولا أن لجيشها طبيعة خاصة من جهة، وأن انفلات الأوضاع فيها يمكن أن يهدد أمن إسرائيل ربيبة أمريكا من جهة ثانية، لذلك لم يجد الأمريكيون بدًا من التسليم بأن مصر لا تمس، ولا يمكن أن يسرى عليها ما جرى على الدول العربية الأقل حجمًا والأسوأ حظًا، وكان البديل هو إرهاق مصر، والضغط المستمر عليها، كان المطلوب ألا تطير مصر فى السماء، وألا تغرق أيضًا تحت الماء.. مطلوب أن تظل مرهقة تحاول الطفو وتتجنب الغرق، وتتعلق بقطع من الأخشاب تلقى إليها كلما بدا أنها أوشكت على الغرق.. هذا هو العامل الخارجى بوضوح، ومن ينكره فهو أعمى أو صاحب غرض.. أما على المستوى الداخلى فأنا شخصيًا أرى أننا وقعنا فى عدة أخطاء، أهمها الثقة فى حلفاء لم يكن يجب الثقة بهم، والفشل فى تحقيق ماهية دورهم الحقيقى فى المنطقة وجوهر نواياهم تجاه مصر، وقد تزامن مع ذلك أننا توسعنا بشكل كبير فى استثماراتنا العامة بنية اللحاق بما فاتنا، ثم كان الخطأ فى عدم تغيير الحكومة، أو عدم تعيين مجموعة اقتصادية قوية. والخلط بين المسئول عن الاقتصاد والمسئول عن السياسة المالية، حيث يمطرنا وزير المالية بتصريحات عن حالة الاقتصاد رغم أن هذا ليس ملفه الأساسى.. والفارق معروف للمتخصصين، وسنخطئ أكثر كلما أجلنا التغيير فى الملف الاقتصادى والسياسى، وفى عدم البدء فى الحوار الاقتصادى الذى دعا له الرئيس فورًا.. ورغم ذلك فإن الجميع يخطئ إذا تجاهل دور العامل الخارجى إلى جانب العامل الداخلى فى الأزمة.. اثنان لا واحد هما سبب الأزمة.. العدو والمتخاذل.. هذا هما سبب الأزمة.