أخطاء الماضى وآلام الحاضر «2»
فى إطار النظرة النقدية لأخطاء إدارة الاقتصاد المصرى ودورها فيما وصل إليه من أزمة، أكمل اجتهادى فى رصد عدد من مسببات الأزمة بعد أن توقفت بالأمس عند ثورة يناير ٢٠١١.. التى قامت والاقتصاد المصرى يحقق نسبة نمو لم تصل عوائدها للطبقات الأكثر فقرًا ولا الوسطى بنسبة كبيرة، ولا شك أن الاقتصاد قد تلقى عدة ضربات فور قيام ثورة يناير ٢٠١١ أكثرها قوة هو هروب مليارات الدولارات خارج مصر ضمن حالة الفوضى الأمنية التى سادت البلاد، وقد كانت كلها رءوس أموال مرتبطة بالنظام الذى رحل، حيث أخرج المئات من رجال الأعمال الجزء الأعظم من ثرواتهم حتى لو بقى كثير منهم داخل مصر.. هذه الأموال التى تم تهريبها خرجت من السوق المصرية بالعملة الصعبة، وقد كانت أولى علامات الضغط على رصيد العملة الصعبة فى مصر، ولأنها أموال مهربة فلا يمكن إحصاؤها بدقة أو الحديث عن أثرها المباشر على الوظائف أو احتياطى النقد الأجنبى، أو غيرها من مظاهر صحة الاقتصاد أو اعتلاله.. وكان من أسباب الخلل الاقتصادى السريع أيضًا تراجع عدد السائحين الذين يزورون مصر لما يقارب النصف، وتراجع عائدات السياحة بنسبة ٤ مليارات دولار تقريبًا، حيث لم تعد لسابق عهدها سوى هذا العام ٢٠٢٣ قبل أن تؤثر عليها حرب غزة مرة أخرى، وشكلت المظاهرات الفئوية المطالبة بزيادة المرتبات عامل الضغط الثالث على الاقتصاد، حيث تم اتخاذ قرارات متتالية بزيادة المرتبات دون زيادة حقيقية فى الناتج القومى، ما أدى للجوء البنك المركزى لطبع العملة دون غطاء إنتاجى حقيقى، ما أدى لحالة مستمرة من التضخم شكلت أزمات متتالية ما زالت مستمرة حتى الآن.. حيث لم تعرف مصر فى تاريخها سلعة زاد سعرها ثم عاد ليكون أرخص مما كان، وتزامن ذلك مع انسحاب تام للاستثمارات الأجنبية وانكماش للاستثمارات الخاصة فى عام حكم جماعة الإخوان، التى بدأت بأحلام اقتصادية ضخمة تمثلت فى وراثة الاقتصاد الخاص المصرى ووسمه بطابع جماعة الإخوان.. لكن حالة الصراع السياسى والرفض الشعبى للجماعة أدت لحالة ركود اقتصادى غير مسبوقة أعفى الشعب الإخوان من حصد ثمارها حين أطاح بهم بعد أن بذروا بذور الاضطراب فى الاقتصاد والسياسة معًا، وقد شهدت الإطاحة بالإخوان موجة أخرى من هروب رءوس أموال الجماعة التى تعرف بأنها جماعة تجارية بالأساس، وترتبط برءوس الأموال الإخوانية فى العالم بشبكة تشبه المافيا، والحقيقة أن الجماعة التى حققت أرباحًا بالمليارات منذ السبعينيات مارست نوعًا من الانتقام الاقتصادى من المصريين منذ الإطاحة بها حتى اليوم، وأنها استطاعت من خلال آلاف التجار المنتمين لها فى مصر والعالم إلحاق أكبر قدر من الضرر بالاقتصاد المصرى، وبشكل عام فإن الاقتصادى المتآمر يملك القدرة على إحداث الضرر أكثر بمئات المرات من السياسى المعارض، الذى لا يملك سوى أن يتكلم ويحرك عواطف الناس.. بينما يملك الاقتصادى المتآمر عشرات الوسائل لإحداث الضرر بالاقتصاد والمجتمع ما لم تتحقق مطالبه.. نتج عن حالة الثورة فى الشارع ورفض الناس الإخوان قيام ثورة الثلاثين من يونيو وانتخاب الرئيس السيسى بعد عام رئيسًا للجمهورية؛ ليواجه حالة ركود اقتصادى كبيرة وانسحاب لرأس المال الخاص ورجوع عدد كبير من العمال من ليبيا، التى شكلت ساحة مساندة للاقتصاد المصرى طوال سنوات حكم الرئيس القذافى.. لجأ الرئيس السيسى لسيناريو روزفلت الذى طبقه عام ١٩٢٩ وهو طرح استثمارات حكومية كبيرة لتشغيل الاقتصاد.. كان هناك سبب اقتصادى واضح وأيضًا سبب سياسى هو إيقاظ الحلم القومى المصرى، وكان من العوامل المساعدة فى تشجيع غير محدود من دول عربية اقتربت من مصر وطرحت صيغة لتحالف استراتيجى، ويمكن القول إن النوايا لدى البعض لم تكن واضحة وخالصة، أو أن إقدام مصر على بناء نفسها بشكل حقيقى أزعج البعض، ولذلك لم تستمر التدفقات النقدية التى كانت جزءًا من هذا التحالف الاستراتيجى؛ رغم أن مصر كانت قد أوشكت على الانتهاء من عدد من المشروعات المصرية العملاقة، وضاعف من الأزمة إغلاق العالم بسبب أزمة كورونا، وحصول مصر على عدة قروض كبيرة لمواجهة تداعيات الإغلاق وما تلاه من أزمة سلاسل الإمداد، ثم توجه الدولارات التى كانت تأتى لمصر إلى بنوك أمريكا للاستفادة من رفع سعر الفائدة هناك لأول مرة منذ عقود، ثم ارتفاع الأسعار بسبب حرب روسيا وأوكرانيا.. على المستوى الداخلى، كان هناك قصور يتمثل فى عدم القدرة على جنى عائد استثمارى سريع من المشروعات التى تم بناؤها، بحيث يمكن وصف الحكومة الحالية بأنها حكومة «البنائين» وليس حكومة «المديرين»، ومع ذلك فثمة استثمارات وأصول ضخمة تمت إضافتها للاقتصاد المصرى فى العشر سنوات الأخيرة، لكنها تحتاج إلى مجموعة اقتصادية قوية تديرها وتسوق لها لدى الجهات الاستثمارية فى العالم.. ولهذا حديث آخر بإذن الله.